أحمد السيد النجار
تواجه مصر لحظة فارقة في تاريخها الحديث وفي مسار ثورتها التي أزاحت قمم نظام مبارك، وما زالت تناضل من أجل إزاحة ما مثله ذلك النظام من فساد وقمع وترهل وظلم اجتماعي، وأزاحت كابوسا آخر للفشل والتخلف والطائفية والمتاجرة بالدين والظلم الاجتماعي أيضا في فترة حكم الإخوان. وهذه اللحظة ستحدد مستقبل الوطن سنوات طويلة قادمة، فبعد أن أقرت مصر دستورا جديدا يمثل الإطار القانوني لبناء النظام السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي الجديد، ها هي تطرق أبواب الانتخابات الرئاسية التي ستحدد رأس السلطة التنفيذية، ليكتمل عقد النظام السياسي بالانتخابات البرلمانية بعد ذلك.
ومن المؤكد أن الانتخابات الرئاسية في نظام يملك فيه الرئيس سلطات كبيرة، تتحول إلى سلطات شبه مطلقة في غياب مجلس النواب إلى أن يتم انتخابه. هذه الانتخابات سوف يكون لها دور حاسم في تحديد مسار ثورة مصر. فالرئيس القادم سيكون المفتاح في إخراج مصر من أسر صندوق الفساد والترهل والقمع وضعف واختلال التنمية الاقتصادية وتفشي الفقر والبطالة والظلم الاجتماعي الذي أغلقه نظام مبارك على الشعب المصري، وظل د. مرسي يتخبط داخله بل وزاده عتمة بالمتاجرة بالدين وتكريس الطائفية.
والرئيس القادم لا يملك ترف الفشل، لأن ذلك الفشل - لا قدر الله - سيعني إبقاء مصر تدور في دوامة الاضطراب والتردي وقتا طويلا. والرئيس القادم أيضا سيكون محاطا بشعب حاضر للدفاع عن أهداف ثورته التي لم تتحقق، ولن يكون بمقدوره - أيا كان اسمه - أن يعيد إنتاج نظام الرئيس المخلوع مبارك، أو الرئيس المعزول د. محمد مرسي.
إن أعظم ما أتت به ثورة يناير 2011 وموجتها الثانية الهائلة في 30 يونيو 2013، هو الخروج العظيم للشعب المصري من قمقم الخوف والصمت إلى براح التعبير الحر عن الرأي والموقف دون خوف حتى على الحياة نفسها. ومثل هذا الشعب لا يمكن حكمه إلا من خلال رئيس يحترم ويحقق ما يناضل الشعب من أجله، من حرية تحفظ حقوق وكرامة الإنسان، وتنمية اقتصادية شاملة ترفع مستويات الدخل والمعيشة وتخلق الوظائف للعاطلين وتكافح الفقر، وعدالة اجتماعية توزع الدخل وتعيد توزيعه لتحقيق العدل عبر سياسات متنوعة في مجالات الأجور والضرائب والصحة والتعليم والدعم والتحويلات.
ببساطة وباختصار فإن الرئيس القادم عليه أن يعد نفسه للتفاعل مع شعب حاضر لدرجة التربص، ولن يكون بإمكانه أن يتقدم إلا بتحقيق الأهداف الكبرى لثورة هذا الشعب، واستدعاء طاقات الاحتشاد الوطني لتحقيق تلك الأهداف بالاعتماد على الذات بصورة أساسية، وببناء ذلك المزيج الساحر من السياسات التي تحقق التنمية والعدالة معا.
وحتى الآن يبدو أن أهم مرشحين في الانتخابات الرئاسية هما السيدان حمدين صباحي وعبدالفتاح السيسي، وعلى الأرجح سيكون السباق الرئاسي الحقيقي مقصورا عليهما، مهما كان فارق القوة والشعبية الحقيقي أو الذي يتصور أي منهما أنه في مصلحته.
- ويتركز الرصيد الشعبي الأساسي للمرشح الرئاسي عبدالفتاح السيسي القادم من قمة المؤسسة العسكرية التي تعد المؤسسة الرئيسية الحافظة للذاكرة الوطنية من بين مؤسسات النظام السياسي في دوره العظيم في مؤازرة الموجة الثورية الهائلة في 30 يونيو 2013 والانتصار لها في مخاطرة كان من الممكن أن تكلفه كل شيء. وكان ذلك الدور قد أكسبه شعبية هائلة لم يسبق أن حصل عليها رمز وطني بعد الزعيم الراحل جمال عبدالناصر. بل إن تلك الشعبية دفعت بعض رموز النخبة السياسية - ومنهم منافسه الرئيسي الراهن - إلى الاستعداد وقتها لتأييده إذا ترشح للرئاسة شرط أن يستجيب لمطالب الشعب ويتبنى البرنامج السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي لثورة 25 يناير 2011 وموجتها الثانية في 30 يونيو 2013.
كما يتمثل رصيده في إعلائه قيمة الاستقلال الوطني في بلد عظيم تم جره إلى حالة من التبعية منذ ما يقرب من أربعة عقود، ولن يتقدم إلا باستعادة استقلاله الوطني كاملا. وأثبت الرجل أنه قادر على إعادة الاحترام لهذا الاستقلال من خلال مواجهته الرصينة والقوية لتجميد الولايات المتحدة مساعداتها العسكرية لمصر، حيث توجه للمرة الأولى منذ عقود إلى روسيا ليعقد واحدة من كبريات صفقات السلاح بصورة أجبرت الولايات المتحدة على التراجع. وكان أداؤه في هذا الملف على درجة عالية من الرصانة والخبرة. لكن هذا الاستقلال الوطني يحتاج إلى ما هو أبعد كثيرا من هذا الموقف، وبالذات فيما يتعلق بالسياسات الاقتصادية وإدارة العلاقات الإقليمية والدولية.
ويتركز رصيده أيضا في قابلية أجهزة الدولة بكل تركيبتها وقدراتها لقيادته، وهو عامل مهم وقد يكون حاسما في قدرة أي رئيس على قيادة الدولة وعلى إصلاح أجهزتها التي ينخر الفساد والترهل عظامها.
لكن معارضيه يحملونه بالمقابل، تبعات أداء حكومة د. حازم الببلاوي على جميع الأصعدة وبالذات فيما يتعلق بالأمن والحريات والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية، وكذلك الأمر بالنسبة لحكومة المهندس إبراهيم محلب حتى خروجه منها. كما يتحفظ البعض على كون الرجل قادما من المؤسسة العسكرية، وهو أمر غريب لأن انتماءه لهذه المؤسسة لا يحرمه من حقوقه كمواطن في الترشح للانتخابات الرئاسية مادام خلع زيه العسكري وأصبح مدنيا له كل ما للمدنيين من حقوق سياسية. ولن أُذكِّر الجميع بما يعرفونه عن حكم عدد كبير من القادمين من خلفيات عسكرية دولا ديمقراطية غربية كبرى، ومن أبرزهم الجنرال ديجول رمز فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، الذي كان عسكريا وحكم فرنسا الديمقراطية عبر الانتخابات، وكذلك إيزنهاور قائد الجيوش الأمريكية في الحرب العالمية الثانية، ورئيس الولايات المتحدة الأمريكية بعد ذلك. ولن أذكر الجميع أيضا بأن بعض أسوأ رموز الاستبداد والفاشية في العالم كانوا حكاما مدنيين، وعلى رأسهم أدولف هتلر. ولذا فإن أي انتقاد للرجل بسبب خلفيته العسكرية هو مجرد مماحكة لا معنى لها، والأهم هو برنامج الرجل وقدرته على تحقيق هذا البرنامج.
كما يثير التفاف بعض رموز نظام مبارك وإعلامييه حول الرجل، بإرادة منه أو بالتصاق لزج قد لا يريده الرجل، الكثير من التساؤلات حول قدرته على الخروج من صندوق مبارك الذي خلق كل الاحتقانات التي فجرت الثورة في مصر. وهذا الأمر سيتضح بجلاء عندما يعلن الرجل برنامجه السياسي - الاقتصادي - الاجتماعي الشامل، الذي سيعكس توجهاته وموقفه من سياسات مبارك ومرسى معا، وسيشكل الأساس الموضوعي للحكم على توجهاته بعيدا عن الانطباعات، وعن محاولة بقايا نظام مبارك الالتفاف حول الرجل وشرنقته بسياسات تعيد إنتاج عصر مبارك بكل ما اكتنف ذلك العصر من فساد وظلم اجتماعي وفشل وترهل. لذا فإن كل من يتعجلون الحكم على الرجل، عليهم الانتظار قليلا وتحكيم العقل والروح الموضوعية في الحكم النهائي عليه.
أما القطب الثاني، وهو المرشح الرئاسي حمدين صباحي، فيملك تاريخاً نضالياً هائلا. فقد كان في مقدمة صفوف الحركة الطلابية التي قامت بدور عظيم في الدفاع عن استقلال مصر وكرامتها الوطنية بعد الاحتلال الصهيوني الدنيء لشبه جزيرة سيناء عام 1967. وكانت تلك الحركة الطلابية قد مارست ضغوطا كبيرة على الرئيس الأسبق أنور السادات من أجل أن تخوض مصر الحرب لاسترداد سيناء المحتلة. وشارك بعد ذلك في انتفاضة الخبز التى فجرها الشعب المصري عام 1977، وأجبرت الرئيس الأسبق أنور السادات على التراجع عن رفع أسعار الخبز والسلع التموينية الأساسية. كما شارك في الحركة الوطنية التي عارضت اتفاقية التسوية السياسية التي عقدها الرئيس السادات مع الكيان الصهيوني، خاصة أن شروط تلك الاتفاقية تعتبر مهينة لدولة كبيرة في قيمة وقامة مصر، بالذات فيما يتعلق بإخلاء الجزء الأكبر من سيناء من الجيش المصري، بينما تقبع القوات الإسرائيلية على الحدود مباشرة متربصة بالأرض والوطن. كما عارض بيع القطاع العام وتشريد عماله في صفقات الخصخصة الفاسدة بصورة مروعة.
وعارض في عام 1996، عمليات نزع الأرض من فلاحى الإصلاح الزراعي الذين كان نظام الزعيم الراحل جمال عبدالناصر قد قام بتمليكهم الأرض من خلال الإصلاح الزراعي. ومن خلال مواقفه وثبات مبادئه بني شعبية جيدة مكنته من النجاح في انتخابات مجلس الشعب، وفي مجلس نقابة الصحفيين. وكان إجمالا في صفوف العمال والفلاحين والمهنيين في نضالهم من أجل العدالة الاجتماعية والحرية السياسية والكرامة الإنسانية. وشارك في تأسيس حركة كفاية، وكان في مقدمة الصفوف في ثورة 25 يناير 2011.
كما قام بدور قيادي في دعم النضال الوطني الفلسطيني وفي معارضة الغزو الأمريكي الإجرامي للعراق. وفي كل نضالاته المذكورة آنفا كان ضيفا على سجون السادات ومن بعده مبارك، مما يعنى أنه كان يدافع عن مواقف عقيدية يؤمن بها بعمق وليس عن مواقف يمكنه أن يكسب منها سياسيا أو إعلاميا.
لكن معارضيه يرون أن اسمه ارتبط بدعم عدد من رموز الاستبداد في الوطن العربي، وحاولوا البحث عن علاقات مصلحيه تقف وراء هذا التأييد، لكن محاولاتهم لم تصب النجاح، لأنها ببساطة لو كانت حقيقية لما تركه نظام مبارك دون محاكمة أو تلطيخ للسمعة بصورة موثقة.
كما يأخذ عليه معارضوه، تحالفه الانتخابي مع جماعة الإخوان بكل طائفيتها وعنفها في الانتخابات البرلمانية عام 2011، وهو ما يبرره بأنهم كانوا فصيلا وطنيا آنذاك، وأن حزبه دخل ذلك التحالف كإجراء تنسيقي مع الاحتفاظ ببرنامجه السياسي والاقتصادي والاجتماعي كما هو.
ويمكن القول إن كلا منهما قيمة ورمز وطني مع الفارق في طبيعة التجربة الوطنية وفي مستوى الشعبية والتأييد، ومن مصلحة مصر وضرورات بناء نظامها الجديد ومستقبلها الوطني، أن تجرى المعركة الانتخابية على أسس عادلة ونزيهة وشفافة، ليختار الشعب بحرية رئيسا لكل المصريين. ورغم أن مراقبة الانتخابات محليا ودوليا تعتبر آلية مهمة لضمان نزاهة الانتخابات وحيدة أجهزة الدولة في الإشراف عليها، فإن مصر ينبغي أن تبادر إلى إقرار ضمانات أكثر إحكاما، مثل وضع جداول الناخبين في كل دائرة، على موقع اللجنة العليا للانتخابات، حتى يسهل على كل المرشحين ومؤيديهم أن يفحصوا ويراجعوا تلك الجداول في كل دائرة وقرية للمساعدة على تنقيتها من أي إضافات غير مشروعة. كما أن إجراء الانتخابات في يوم واحد هو آلية مهمة أيضا لضمان النزاهة والشفافية، حيث إنه في حالة إجراء الانتخابات على يومين، فإن الليلة الفاصلة بين اليومين تكون فيها احتمالات التلاعب في الصناديق واردة. وهذه الضوابط للنزاهة هي في مصلحة مصر، وهى حق لشعبها كي تخرج نتائج الانتخابات معبرة عن إرادته، حتى لو كانت الشواهد الجماهيرية تؤكد التفوق الكبير لشعبية هذا المرشح أو ذاك.
ولأن كلا من المرشحين عبدالفتاح السيسي وحمدين صباحي، لم يعرضا البرنامج الاقتصادي - الاجتماعي - السياسي لكل منهما بعد، فإنه من الأفضل أن ننتظر حتى يقدم كل منهما برنامجه كي نستطيع تحليله وتقييمه، وإن كان من الضروري الإشارة إلى أن سباق البرامج لا يقوم على حجم الوعود، بل على واقعيتها وإمكان تحقيقها عمليا. وفي الحالة المصرية، فإن أحد المعايير المهمة في الحكم على أي برنامج هو مدى اقترابه من مطالب الشعب العادلة التي أطلقها في ثورته وهى الحرية والكرامة الإنسانية والتنمية الاقتصادية والعدالة الاجتماعية والاستقلال الوطني. لكن في كل الأحوال لابد من خوض المعركة بشرف واستبعاد لجان البذاءة الإلكترونية والتليفزيونية والصحفية التي أصبحت كالسرطان في جسد الإعلام، ويجب أن يتطهر منها، وأيا كان الرابح في سباق الرئاسة فإن النتيجة النهائية هي أن مصر ستكسب رئيسا لكل المصريين وتدخل مرحلة البناء القائم على روح ثورتها ومطالب شعبها.
أرسل تعليقك