لندن ـ وكالات
ودعت إسطنبول السبت الماضي «أسطورة الصحافة التركية» محمد علي بيراند الذي توفي يوم الأربعاء الماضي عن 71 عاما بجلطة قلبية أتته إثر إصابته بمضاعفات بعد عملية لإزالة حصوة في المرارة، علما بأن بيراند كان استطاع الصمود في صراع طويل مع مرض السرطان الذي أصابه وأجريت له عملية جراحية بسببه عام 2011 ولم يقعده عن الكتابة والحراك السياسي.
فقد قضى بيراند نحو نصف قرن في مهنة الصحافة والكتابة السياسية. وهو بدأ حياته المهنية مراسلا لصحيفة «ميلييت» في العاصمة البلجيكية بروكسل. وقد تميز الصحافي الشاب آنذاك بكتاباته الجريئة المنتقدة للسياسات اللاديمقراطية لبلاده، وأيضا بالمقابلات النوعية التي استطاع إجراءها مع أبرز قادة السياسة والفكر في أوروبا. وفي عام 1985 بدأ بتقديم برنامجه السياسي الشهير «اليوم 32» على شاشة التلفزيون الرسمي التركي «ت ر ت 1»، وهو البرنامج الذي لاقى إقبالا جماهيريا كبيرا.
وفي عام 1986 ساهم بدور أساسي في افتتاح مكتب صحيفة «ميلييت» في موسكو بعد جهود مضنية بذلها لإقناع السلطات السوفياتية وإدارة صحيفته ذاتها للقيام بهذه الخطوة التي مثلت أول خرق للعزلة الشاملة بين الجارين اللدودين نتيجة لتموضعهما في معسكرين دوليين متصارعين.
وفي عام 1988 كان بيراند أول صحافي تركي يجري مقابلة مطولة مع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في وادي البقاع اللبناني، وهي المقابلة التي أثارت آنذاك حنق الحكومة التي أوعزت بجمع الصحيفة من أكشاك التوزيع ومصادرتها. وأجرى بيراند مقابلات مع عدد من كبار زعماء العالم، منهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، والفرنسي فرنسوا ميتران، والعراقي صدام حسين.
ووصف رئيس الوزراء التركي طيب أردوغان بيراند الذي أجرى معه عدة مقابلات في بيان أصدره بأنه «كاتب محترف تفيض كتاباته بالحماسة». وقال إنه كان يدعو له أثناء فترة مرضه.
وتقول فاطمة دمرللي، وهي صحافية تركية عملت مع بيراند لسنوات في أنقرة، لـ«الشرق الأوسط»، إن الأخير لم يكن يشارك في اجتماعات التحرير، لكن كل العاملين في الصحيفة كانوا يرونه، فهو شخص ديناميكي وممتلئ طاقة، بالإضافة إلى إيجابيته الكبيرة، لتخلص إلى القول بأنه كان «رجلا شعبيا بامتياز».
في عام 1991 عاد مع عائلته ليستقر بصورة دائمة في تركيا ومن ثم لينتقل في العمل بين عدد كبير من وسائل الإعلام التركية المقروءة والمرئية، من بينها صحف «صباح» و«بوسطة» و«حريات»، والقنوات التلفزيونية «سينا 5» و«شو تف» و«قناة د» و«سي إن إن تورك» وغيرها.
أصدر في حياته 16 كتابا من أشهرها «الثاني عشر من سبتمبر (أيلول) الساعة الرابعة صباحا»، و«آبو وحزب العمال الكردستاني» و«قصة تركيا الأوروبية» بالإضافة إلى كتاب «الانقلاب الأخير». وساعدت الأفلام الوثائقية لبيراند عن انقلابين عسكريين في تركيا عامي 1960 و1980 في توثيق اللحظات الفارقة في سجلات التاريخ التركي.
في عام 1971 التقى أثناء عمله في ميلييت بزوجته جمرة التي رزق منها بتوأمين من الصبيان، توفي أحدهما في بروكسل أثناء سنوات الاغتراب التي ناهزت العشرين عاما. وكان بيراند يجيد علاوة على التركية كلا من الفرنسية والإنجليزية بطلاقة.
اعترف مؤخرا خلال مقابلة صحافية بأصوله الكردية التي تعود إلى منطقة «بالو» التابعة لولاية «العزيز» في كردستان الشمالية. هو قال في المقابلة بأنه «لم يكن يعلم بأصوله الكردية»، وبأن «والديه الكرديين تجنبا الخوض في هذا الموضوع لأنهما كانا يعتقدان أن إظهار جذورهما الكردية أمر كريه».
وصف نفسه في المقابلة ذاتها بأنه «كردي انصهر في بوتقة القومية التركية»، لكن استدرك بالقول إن «اهتماماتي بقضايا الكرد ليست لها أي علاقة بأصولي الكردية».
آخر مقال له نشر قبل ساعات من نقله للمستشفى في جريدة «حرييت ديلي نيوز» التي تصدر باللغة الإنكليزية كان عن القضية الكردية، وحمل عنوان «على الشرطة و(ب ك ك) اجتياز الاختبار»، دعا فيه كلا من الحكومة وحزب العمال الكردستاني عشية نقل رفات الناشطات الكرديات الثلاث اللاتي قتلن في باريس على يد مجهولين؛ تمهيدا لدفنهن في مسقط رأسهن في كردستان، دعا إلى إعطاء فرصة للسلام الذي تتطلع إليه أوسع شرائح المجتمعين التركي والكردي، على حد سواء.
تميز بيراند أيضا بموقفه من الأزمة السورية، وقال في مقالة نشرتها «الشرق الأوسط» العام الماضي بالاتفاق مع صحيفة تركية، إن أنقرة قامت باستخدام كل ما في وسعها في هذه الأزمة، حيث غيرت من أدواتها، وتصدرت الجهود الرامية لحل الأزمة، ولكنها لم تتمكن رغم كل ذلك من إسقاط الأسد. ليخلص إلى القول إن رغبة تركيا في حل الأزمة السورية بصورة سريعة أمر يمكن تفهمه، ولكن في حال استمرار هذا الإيقاع، وإذا لم يجر تعديل المواقف المؤيدة للصراع، فمن الواضح أن تكلفة الأزمة السورية ستصبح مرتفعة للغاية بالنسبة لنا.
وانتقد بيراند موقف حكومته من قضية اللاجئين، معتبرا أن الاتحاد الأوروبي أو الأمم المتحدة لم يقوما بإرسال أي مساعدات للاجئين، بسبب عدم قبول تركيا بشروط الرقابة وتوزيع المعونات الخاصة بهذه المؤسسات، حيث تقول تركيا لهم: «أعطونا الأموال ولا تتدخلوا بأي شكل، وسوف نتولى نحن مهمة التوزيع». كما انتقد كلفة «التصريحات العالية اللهجة» لقادة بلاده فيما خص الأزمة، حيث قال: «يسود انطباع خاطئ في وسائل الإعلام العالمية بأن تركيا على وشك الدخول في حرب مع سوريا. يتزايد هذا الانطباع بصورة كبيرة في الآونة الأخيرة، وهو نابع في الحقيقة من الموقف الذي تتبناه تركيا، ومن التصريحات القوية التي تصدرها بشكل متكرر.
* بيراند في سطور
* والده عزت بيراند ووالدته ميرفت. ولد في 9 ديسمبر (كانون الأول) 1941 في منطقة باي أوغلو في إسطنبول. لديه ولد وحيد هو عمر.
* أنهى دراسته في ثانوية غلاطة سراي الرسمية.
* امتدت فترة عطاء بيراند نحو 50 عاما أجرى خلالها مقابلات مع عدد من كبار زعماء العالم، منهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والفرنسي فرنسوا ميتران والعراقي صدام حسين.
* اعتبر علامة بارزة في تاريخ الصحافة التركية، وامتدت فترة عطائه نحو 50 عاما.
* بدأ مسيرته المهنية في سن مبكرة في صحيفة «ميللييت» عام 1964 ولغاية عام 1992.
* عمل ما بين عامي 1992 و1998 في صحيفة «صباح» التركية.
* عمل مراسلا في بلجيكا ومدن أوروبية لنحو عشر سنوات، استطاع خلالها أن يفتح قنوات اتصال مهمة مع العالم الخارجي.
* واجه صعوبات خلال تسعينيات القرن العشرين، بسبب كتاباته الرافضة لوصاية العسكر والمطالبة بتسوية القضية الكردية، وإجرائه لقاء مع زعيم حزب العمال الكردستاني (المسجون حاليا) عبد الله أوجلان.
* منع كتابه الأشهر «أورك سيدي الجنرال» الذي فضح فيه العالم الداخلي للمؤسسة العسكرية الانقلابية، ونظرتها إلى السياسة والشعب.
* انتقم منه الجيش، إذ ضغط لطرده من عمله عام 1997 خلال الانقلاب السياسي على حكومة الإسلامي نجم الدين أربكان، رغم أن بيراند كان من أشد المنتقدين لتيار الإسلام السياسي. وأبعده الجيش بسبب مقالاته الرافضة لتدخله في السياسة.
* بعدها شارك في تأسيس قناة «سي إن إن ترك»، وعمل مديرا للأخبار ومقدما للنشرة المسائية في قناة «دي».
* ينسب إليه الفضل في فتح نافذة الأخبار الخارجية والصحافة الدبلوماسية في تركيا، وعرف شعبها الذي كان يعيش في عزلة تامة على أخبار العالم والجوار، من خلال برنامجه الشهير «اليوم الثاني والثلاثون» الذي كان الأتراك ينتظرونه بشوق شهريا على القناة الرسمية «تي آر تي» في ثمانينات القرن العشرين.
* ساعدت أفلامه الوثائقية عن انقلابين عسكريين في تركيا خلال عامي 1960 و1980 في توثيق اللحظات الفارقة في سجلات التاريخ التركي.
* أجرى خلال مهنة الصحافة مقابلات مع عدد من كبار زعماء العالم السابقين، منهم الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون والفرنسي فرنسوا ميتران والعراقي صدام حسين، وتتلمذ على يديه عشرات الصحافيين.
أرسل تعليقك