كانت وفاة السلطان قابوس بن سعيد في 10 كانون الثاني (يناير) 2020 بمثابة نهاية حقبة. منذ بداية “النهضة المباركة” في العام 1970، والتي حدثت في ظل قيادته، حقّقت عُمان تطوراً غير مسبوق، ونمت بشكل كبير في جميع المقاييس الإجتماعية والإقتصادية.
على سبيل المثال، إرتفع إجمالي الناتج المحلي الإجمالي من 256 مليون دولار في العام 1970 إلى ما يقرب من 77 مليار دولار في العام 2019. وفي الإطار الزمني عينه، زادت الطرق المعبّدة في السلطنة من 10 كيلومترات فقط إلى 40 ألف كيلومتر. ونما عدد المدارس بسرعة، من ثلاث إلى أكثر من 2000 مدرسة.
لكن مسيرة عُمان نحو الحداثة لم تُركّز فقط على المقاييس الحديثة للتنمية. كان الجزء الرئيس من رؤية السلطان قابوس هو الأهمية التي أولاها للحفاظ على التراث والثقافة العريقة في البلاد منذ قرون.
لخّص الحاكم العُماني الحالي، السلطان هيثم بن طارق، امتنان الأمة للسلطان قابوس في تأبينٍ مؤثّر ألقاه في اليوم التالي لوفاته، حيث قال: “لا توجد كلماتٌ تُعبّر عمّا حقّقه وأنجزه”.
وأشار إلى الكيفية التي أسس بها الحاكم الراحل دولةً من الصفر، دولةٌ مُعتَرَفٌ بها الآن كقوةٍ ثقافية وديبلوماسية في جميع أنحاء العالم. ومضى يقول إن إصلاحات السلطان قابوس أدّت إلى “الإزدهار الذي كان يتمنّاه لبلاده”. ومن هذا المنطلق تعهّد السلطان هيثم بمواصلة العمل الذي بدأه سلفه.
كانت عُمان لا تزال تتعامل مع الخسارة المأسوية لسلطانها الأسطوري السابق عندما أعلنت منظمة الصحة العالمية أن فيروس “كوفيد-19” صار جائحة عالمية في 11 آذار (مارس) من العام عينه. لقد أدّى الوباء وتداعياته إلى سلسلة غير مسبوقة من التحديات للبلدان في جميع أنحاء العالم. وفي حين أن التداعيات بعيدة المدى للأزمة قد أضعفت حتى أكثر الدول تقدّماً، فإن عُمان تحرّكت بحزم، وأظهرت مرونة ملحوظة ورشاقة وذكاءً في استجابتها.
وقد تم تشكيل لجنة عليا لـ”كوفيد-19″ في أوائل آذار (مارس)، رأسها وزير الداخلية حمود بن فيصل البوسعيدي، حيث اتّخذت سلسلة من الإجراءات للحفاظ على صحة المواطنين، فضلاً عن تنظيم إعادة فتح الإقتصاد بعد إغلاق شهرَي تموز (يوليو) وآب (أغسطس).
إن النتائج الناجحة كانت شهادة على نجاح هذه التدابير. إعتباراً من 4 كانون الثاني (يناير) 2021، سجّلت عُمان ما يقرب من 130,000 حالة إصابة ب”كوفيد-19″ و1500 حالة وفاة. وهذا يُتَرجَم إلى معدل تعافي يقارب 95 في المئة، مع معدل وفيات يزيد قليلاً عن واحد في المئة.
كما اتّخذت الحكومة عدداً من الإجراءات لتحفيز الإقتصاد ومساعدة الشركات. في 18 آذار (مارس)، أعلن البنك المركزي العُماني عن حزمة حوافز شاملة ضخّت أكثر من 20 مليار دولار في الإقتصاد.
وأعلن البنك المركزي أيضاً عن مجموعةٍ من إجراءات الإغاثة الأخرى، مثل زيادة 5 في المئة في نسبة الإقراض للبنوك التجارية، وتأجيل الفائدة لمدة ستة أشهر على القروض للمُقتَرضين المُتضرِّرين، ولا سيما الشركات الصغيرة والمتوسطة الحجم.
وتمّ الكشف أيضاً عن مبادرات إغاثة في ما يتعلق بالإمتثال القانوني والتنظيمي. فقد حصل قطاع الشركات على إعفاء ضريبي في شكل تمديد لمدة ثلاثة أشهر لتقديم المواعيد النهائية، وتم التنازل عن ضرائب السياحة والبلديات حتى نهاية آب (أغسطس).
في أثناء مواجهة التداعيات الفورية للوباء، أعادت الحكومة في الوقت نفسه هيكلة جهاز الحكم. شُكّلت حكومة جديدة في آب (أغسطس)، حيث تم تخفيض عدد الوزراء من 26 إلى 19. وحُلَّ عددٌ من المؤسسات الحكومية أو دمجها مع وزارات أخرى.
الواقع أن الحكومة الجديدة تعكس عملية الإستمرارية والتغيير، مع جلب جيل جديد من الوزراء ذوي الخبرة في المجالات ذات الصلة، والإبقاء على قطاع عريض من الوزراء الذين خدموا من قبل.
في تفويضٍ كبير للسلطة، تنازل السلطان هيثم عن ألقاب وزير الدفاع ووزير الخارجية ووزير المالية ورئيس البنك المركزي العُماني لمسؤولين آخرين. ويُمثل هذا الأمر تحوّلاً كبيراً نحو أسلوب حكم غير مركزي أكثر. وبالمثل، مُنحت 11 محافظة في عُمان المزيد من الصلاحيات، مما يعُزز العملية الفيدرالية.
ستساعد إعادة هيكلة جهاز الدولة في تحقيق أهداف متعددة، مثل زيادة كفاءة الحكومة، وتشجيع الإستثمار والأعمال، وتحقيق تنمية أكثر تركيزاً على مستوى المحافظات الفردية. بشكل عام، ستضع هذه التغييرات البلاد في وضعٍ جيد لأنها تواجه تحديات اقتصادية فورية فيما هي تقوم برسم خارطة طريق للمستقبل.
تم تقديم سلسلة من القوانين والنظم لتحقيق عدد من الأهداف الاقتصادية. على سبيل المثال، تُركّز خطة التوازن المالي متوسطة المدى 2020-2024، التي تم تقديمها في تشرين الأول (أكتوبر) 2020، على دعم النمو الإقتصادي، وتنويع مصادر الإيرادات الحكومية وتعزيزها، وتقييم نفقات الدولة وكفاءتها، وتعزيز شبكة الأمان الاجتماعي وتعزيز الإدارة المالية. وتهدف خطة التوازن المالي إلى خفض عجز الموازنة العامة إلى أقل بقليل من 2 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول العام 2024. وتوقعت موازنة عُمان للعام 2021 عجزاً بنسبة ثمانية في المئة.
في محاولةٍ لدعم الإيرادات الحكومية، أعلنت عُمان عن إدخال ضريبة القيمة المضافة بنسبة 5 في المئة إعتباراً من نيسان (إبريل) 2021. وسيتم إلغاء دعم المياه والكهرباء تدريجاً، بدءاً من كانون الثاني (يناير) 2021 حتى 2025، كما أن فرض ضريبة الدخل على أصحاب الدخول المرتفعة هو قيد الدرس. وبينما ستؤدي هذه الخطوات إلى فترة من التضييق، فإن الحذر المالي سيساعد الحكومة على تعزيز إنفاقها التنموي في السنوات المقبلة.
في أحد القرارات البارزة للعام الفائت وافق السلطان هيثم على إطلاق رؤية “عمان 2040” في كانون الأول (ديسمبر) 2020. وهي ترسي خارطة الطريق للبلاد على مدى العقدين المقبلين. وتهدف إلى البناء على المكاسب التي تحققت منذ بداية “النهضة المباركة” ولتعزيز الاقتصاد العماني المتطور والمتنوع والمُستدام.
تهدف الخطة الخمسية العاشرة (2021-2025) – الخطة الأولى لرؤية 2040 – إلى تحقيق متوسط نمو الناتج المحلي الإجمالي بنسبة ثلاثة ونصف في المئة، وخلق 135,000 وظيفة خلال مدة الإطار الزمني للخطة. إن لدى عُمان مجموعة غنية من المواهب الشابة، حيث أن 65٪ من سكان السلطنة تقل أعمارهم عن 35 عاماً. وتهدف رؤية 2040 إلى إطلاق هذا العائد الديموغرافي من خلال تحديث نظام التعليم، فضلاً عن دعم البحث العلمي والإبتكار.
هذه الإجراءات، إلى جانب العمل الإيجابي الذي يتمثّل بالتعمين، وتشجيع المزيد من العُمانيين على الوظائف التي كان يشغلها في السابق عمال وافدون، ستخلق فرص عمل للمواطنين الشباب، ما يتيح للشركات الوصول إلى قوة عاملة ديناميكية وماهرة. ويحظى قطاع السياحة، الذي لطالما كان مصدراً رئيساً لفرص العمل، بدعم كبير من خلال الإعفاء من تأشيرة الدخول لمواطني 103 دولة لمدة 10 أيام.
إذا نظرنا عاماً إلى الوراء منذ وفاة السلطان قابوس، يُمكنني القول بثقة أن السلطان هيثم قد ضمن عملية الإستمرارية والتغيير. في ظل قيادته الحكيمة، واجهت عُمان التحديات الفورية بعزم وأرست أساساً قوياً لمستقبل واعد.
قد يهمك ايضًا:
أرسل تعليقك