ديما عدرة هي واحدة من بنات لبنان التي اضطرتها ظروفها إلى الهجرة. وفي كندا حطت رحالها كعروس بعد أن زفت إلى رامي كرم، ابن بلدة قرطبا الذي يعمل هناك. وبعيداً عن وطنها شعرت بحنين كبير لمدينتها الشمالية طرابلس. فهي سبق وذاقت طعم الغربة أثناء دراستها في بوسطن، وكذلك خلال عملها في كندا، حيث تعرفت إلى زوجها. وباتت تتصل بوالدتها أو خالتها وحماتها يومياً تسألهن عن وصفة طعام معينة تذكرها بالمائدة اللبنانية.
واجهت ديما صعوبة في البداية لتطبيق الوصفات التي كانت تتلوها عليها إحدى الأمهات من دون معايير دقيقة. فعبارات «أضيفي كمية من المياه» أو «ضعي كمشة أرز» أو «امزجي بعض هذه المكونات معاً» وغيرها، لم ينتج عنها المذاق الذي كانت تتوق إليه. من هنا قررت أن تؤلف كتاب الطبخ «ماما غنوج»، وتضع فيه وصفات أطباق لبنانية أصيلة، مرفقة بالمعايير المطلوبة. فبرأيها قلة من بنات جيلها لديهن فكرة وافية عن هذه الوصفات بحيث أحياناً لا يتجرأن على تحضيرها. واختارت للقيام بهذه المهمة التي حملتها مسؤولية كبيرة تجاه أرض الأجداد 10 نساء. وأخذت من كل منهن أكثر من أكلة لتجمع نحو 63 وصفة طعام. وتوضح ديما في حديث لـ«الشرق الأوسط»: «كان يهمني أن أنقل الطبق بنكهته، وبنفس طريقة تقديمه، بحيث عندما يغمض المرء عينيه ويتذوقه تعود به الذكريات إلى مائدة العائلة اللبنانية، بالأخص إلى أجواء لبنان. ففي بلاد الهجرة يزداد حبنا للوطن ونمضي أوقاتاً طويلة نبحث فيها عن تفاصيل صغيرة يمكنها أن تعيدنا إلى أحضانه ولو افتراضياً».
من والدتها وحماتها وقريبات لها ولزوجها، إضافة إلى أمهات صديقاتها، جمعت ديما عدرة كل ما تحتاجه لتأليف محتوى هذا الكتاب. وعن سبب تسميتها له «ماما غنوج» تقول: «الجميع يعرف طبق المتبلات (بابا غنوج) الشهير في لبنان، والمؤلف من هريس الباذنجان مع خليط الطحينة الممزوج بالليمون الحامض والثوم المدقوق. ورأيت في إطلاق اسم (ماما غنوج) على كتابي بمثابة تحية إلى أمهات لبنان، اللاتي يمضين عمرهن في تدليل أبنائهن، والوقوف على طلباتهم المختلفة، لا سيما في عملية تحضير هذا الطبق أو ذاك».
ووزعت ديما أقسام كتابها تحت عناوين بسيطة تجذب القارئ، وبتصفحه يكتشف القارئ أقسام «طبخ البيت» و«أخطاء لا ترتكبيها» و«صبحية» و«مازة» وغيرها، إضافة إلى قسم خاص بالحلويات البيتوتية المعروفة. وتعلق ديما في سياق حديثها: «لقد أدرجت أيضاً أقساماً تعنى بالمعايير وكيفية تحضيرها. وكذلك قدمت قصة صغيرة عن كل أم زودتني بوصفة طعام، منوهة بالانطباع المحفور في ذهني عن شخصيتها. ولم أنس ذكر أخطاء وهفوات ارتكبتها، خلال تطبيقي هذه الوصفات محذرة قارئ الكتاب من الوقوع فيها».
تعطي ديما عدرة نصائح تطبيقية سريعة ومهمة في وصفاتها. «لقد اكتشفت أن هذه التحذيرات التي كانت الأمهات الصديقات تضعني على بينة منها تشكل سر نكهة الطبق المحضر. كيف علينا أن نطبخ اللبن من دون أن يتخثر (يفرط)؟ كيف نمد عجينة الكبة كي تنضج أقسامها بشكل متوازٍ؟ وما هي العملية الأفضل لتعقيد صلصة اليخنة؟ وأسئلة استفهامية أخرى أرد عليها في كتابي. فهذه المفاتيح الصغيرة التي تختزنها الأمهات من تجاربهن الطويلة في المطبخ، تشكل أسرار نجاح الطبق».
تحضر المائدة اللبنانية في يوميات ديما عدرة، وتقول: «أتمسك بتحضير أطباق لبنانية لعائلتي الصغيرة. ويهمني أن يكبر ابني زين معها فتصبح من عاداته وتقاليده. كل طبق يندرج في كتابي سبق وحضرته وتذوقته، كي أتأكد بأن الطريقة سليمة وصحيحة، ويمكن لغيري من بنات جيلي اتباعها من دون أي صعوبة تذكر».
الكتاب بأكمله صنع بأنامل نسائية، فقد أصرت ديما أن يحمل هذه الدمغة الأنثوية، كي تقدم تحية تكريمية للمرأة اللبنانية. وابتداء من شهر مارس (آذار) المقبل يصبح متوفراً شراؤه افتراضياً. وتقول في سياق حديثها لـ«الشرق الأوسط»: «هذا الكتاب أردته لفتة تكريمية لكل النساء اللاتي تعاون معي لولادته. فبدءاً من والدتي وجدتي مها وهدى عدرة، ومروراً بوالدة زوجي دوللي كرم، وأمهات صديقاتي كمنى مسقاوي وألحان عبود وغيرهن كنا أساسيات في عملي. وهذا الأمر ينطبق على المصورة الفوتوغرافية لارا زنكول، ومصممة الكتاب نور طعمة، وشقيقتي هدى الاختصاصية الفنية بالرسوم». ولم تنس ديما أن تذكر بعض الاختلافات التي تشهدها عملية تحضير الطبق بين منطقة لبنانية وأخرى. وتقول: «نحن في طرابلس مثلاً نتبل (نقر الكوسى)، بينما حماتي تحضره على طريقة العجة. وبالنسبة إلى طبق ورق العنب يستغرق مع أهالي طرابلس ساعات طويلة لينضج على مهل، فيما المدة تكون أقصر بالنسبة إلى سكان بيروت. الأمر نفسه يسري على أطباق أخرى كالمغربية والكبة بالصينية واليخاني، فتختلف طريقة تحضيرها بين منطقة وأخرى، وهو ما أشرت إليه في الكتاب».
وتجد ديما أن علاقة قوية تربط ما بين عملية تذوق طبق ما والشعور الذي يتملك صاحبه. وتقول: «علمتني جدتي التي رحلت منذ سنوات قليلة كيف أحضر طبق الفاصولياء بالزيت، حسب طريقتها. وعندما تذوقته بعد الانتهاء من تحضيره بكيت تأثراً، إذ استرجعت ذكرياتي معها، وكيف كانت تهتم بتخصيصي بأطباق أحبها».
تلاقي فكرة كتاب «ماما غنوج»، وهو باللغة الإنجليزية، رواجاً كبيراً بين صديقات وقريبات ديما عدرة في أوروبا وأميركا وحتى في لبنان. «لقد وجدن فيه السهل الممتنع وما يرغبن به تماماً للعودة إلى أصالة الطعام اللبناني». وعما إذا كان «ماما غنوج» سيترك أثره الإيجابي على هواة تناول الأطباق السريعة من بيتزا وهمبرغر وغيرها ترد: «أنا أكيدة بأن طبق المحشي كوسى يفضله كثيرون على الأطباق التي ذكرتها. فجميعنا نحن إلى هذه الأكلات ونفضلها على غيرها لو خيرنا بينها. وهناك كثيرون من أبناء جيلي أحبوا فكرة الكتاب، فهم لم يحظوا بفرصة مشاهدة أمهاتهم وهم يحضرن الطعام لهم. فبعضنا هاجر باكراً، وبعضنا الآخر اضطر إلى متابعة دروسه في الخارج، فلم تتوفر لنا هذه الفرصة».
تعترف ديما ابنة الـ32 ربيعاً أنها أحياناً كانت تتفرج على طبق بيتزا أمامها في بلاد المهجر وتتخيله طبق كبة بالصينية. وتتابع: «لا أستطيع وصف هذا الشعور بالحنين الذي يتملكنا بعيداً عن وطننا. والطعام بحد ذاته أعتبره صلة تواصل أساسية مع أرض الوطن تماماً كلغتنا».
وعن الجزء الخاص بالحلويات تقول: «أدرجت في الكتاب وصفات لأطباق حلويات بيتوتية كانت أمهاتنا وجداتنا تحضرها لنا بمهارة. فاخترت منها (المهلبية) و(الأرز بالحليب) و(الصفوف) و(العثملية)، التي وعكس ما يعتقده كثيرون يمكن تحضيرها بسهولة وبسرعة في المنزل».
وقد يهمك أيضًا :
دار الشروق تتيح "أربعة شهور في قفص الحكومة" لـ حازم الببلاوي إلكترونيا
مصر العربية تصدر "عمتي زهاوي" للكاتب فليح الزيدي
أرسل تعليقك