ودّعت مدينة الموصل رائد الفن التشكيلي الحديث فيها؛ الفنان راكان دبدوب، الذي يعدّ المؤسس الأول للتجربة الجديدة في الرسم، بعد رواد شكّلوا المدارس التقليدية فيها، فيما نعى وزير الثقافة والسياحة والآثارفرياد رواندزي الفنان التشكيلي الرائد راكان دبدوب الذي وافاه الأجل اثر أزمة صحية عن عمر ناهز السادسة والسبعين عاماً، منها أكثر من خمسين عاماً حافلة بالنتاج الفني والعمل التشكيلي .
رفض دبدوب الخروج أو مغادرة مدينته الأم الموصل، على الرغم من كل ما عاشته خلال الأعوام الثلاثة الأخيرة، وبقي ملتزماً بيته الذي بناه بيديه، وشكّله كما يشكّل لوحاته وهو يعيد رحم مدينته مع كل مرحلة تمر عليها، وولد دبدوب في الموصل عام 1941 وتخرج في معهد الفنون الجميلة في بغداد عام 1961، ليكمل بعد ذلك دراسته العالية للفن التشكيلي في أكاديمية روما عام 1965 عمل دبدوب أستاذاً للفن في كلية الهندسة قسم العمارة في جامعة الموصل، واستمر في عمله هذا حتى تقاعده عام 1993.
كانت المشاركة الأولى لدبدوب في معرض الجريدة الإيطالية السنوي وحصل على دبلوم ومدالية فضية لعامي 1962 و1963، ليحصل بعدها على جائزة دانتي في معرض أقامته العلاقات الثقافية الإيطالية العربية في روما عام 1962، كما حصل على الجائزة الثانية في مسابقة سان رومانو الذي أقامته بلدية روما عام 1962، وربما كانت هذه البدايات سبباً ليشكّل دبدوب رقماً صعباً في التشكيل العراقي والعربي عموماً، حتى أقام أكثر من خمسة وثلاثين معرضاً لأعماله الشخصية في العراق والعالم.
وفضلاً عن الرسم، فإن لدبدوب نتاجات في النحت والتخطيط والتصوير الفوتوغرافي ونحت الخشب والبرونز والمرمر والفخار والموازييك والكرافيك وغيرها الكثير من النتاجات في مختلف الفنون.
وأصبحت مدينة الموصل محور أغلب لوحات دبدوب، فقد رسم مدينته في لوحات كثيرة معبرة جداً عن إحساس هذه المدينة، كما يقول الكاتب عماد رّمو الذي تناول أربع لوحات عن الموصل في دراسة مطوّلة له، هذه اللوحات تمثّل انتقالاً من هوية وعمق وعمارة المدينة، إلى تجريد كامل لبانوراما رؤيته المثالية لها. من مدينة ضبابية، شتائية بألوان داكنة حزينة وعمق أزقتها يطول ويطول وسماء بلون الأرض، قبب زرقاء ترتفع منها ونوافذ موصلية مغلقة وثلاث أشجار. إنها حزينة حقاً كمدينة شتائية، لينتقل بعدها إلى مدينة ربيعية هادئة في تكوين بديع وانتقالات لطيفة بين المدينة والأفق في تكوين مثالي الشكل، قبب تُرفع منها الصلوات وأبواب مفتوحة للجميع، نوافذ مضاءة بالوان زاهية. مدينة خضراء. الضوء الرباني الذي يشع من خلف المدينة يكَون سماءً ذهبية زاهية في لونها وصفائها. الخطوط المائلة التي احتوت ظلال البيوت والجوامع تحولت إلى سطوح أضافت عمقاً جديداً وحاداً لهذه المدينة.
أما في لوحته (مدينة رقم 3) فنجد الموصل تلبس ثياب العيد، حيث ابتهجت بهذه الألوان الرائعة، ندخل إلى قببها وبيوتها، انتقال رائع من المنظور الخارجي إلى المنظور الداخلي بمقطع معماري التكوين رائع في هندسته، ولقد جمع بين تقنية اللون والشكل في جدارية رائعة تشع الفرح والبهجة من خلال نوافذها الملونة، طيارات العيد الورقية مزجت حركة المدينة مع استقرار التكوين وأعاد دبدوب ذكرياته الطفولية عندما كان أطفال الحارة يتسابقون في الطيران بأحلامهم الورقية.
لكن دبدوب يعود في لوحته (مدينة رقم 4) إلى التجريد الكامل والانتقال إلى عمق وإحساس المدينة في جدارية طويلة الشكل. امتزجت السماء بالأرض وانعكس ضوء بيوت مدينته على النهر في لوحة بديعة، الأزرق هنا يشكل أكثر من ثلثي اللوحة، ولكنه تفاعل مع عمارتها وأضاءت الألوان الأخرى الأشكال التي تتراقص في تشكيلة بنائية جميلة.
ويشير رمّو إلى أن دبدوب لا يرسم فقط في هذه اللوحات وإنما يعزف موسيقى رائعة من خلال الإحساس الذي يمزجه ويضعه في التكوين الكلي والأجزاء وأشكالها واللون وتدرجاته مع جدران تتمكن من لمسها بحيث تشعر أحياناً بأنك تتجول في مدينته من خلال ريشته، هذه اللوحات تكون مع بعضها بعضا سمفونية تشكيلية ولونية يعزفها مرة ثانية بريشته على قماش اللوحة. كل لوحة هي جزء ولحن من ألحان مدينته، إنه يعزف من خلال الألوان، وكما الموسيقى نفسها تبث في النفس إحساساً معيناً وتسرد قصة حبه.
خلّد الفنان مدينته بهذه السمفونية التشكيلية التي ستبقى عالقة في ذاكرة التاريخ دائماً، ويبحث دائماً عن التجديد ولا يحب التقليد أبداً وخلق لنفسه ولفنه أسلوباً مميزاً لا يستطيع أي فنان آخر أن ينافسه عليه. لقد درس شكل الفوَهة كثيراً منذ أن كان طالباً في روما، وقام بتطويرها لتصبح الفوهة مفتاح وختم جميع لوحاته، فقلما تجد لوحة له لم يختمها بفوهة أو أكثر، إنها الختم الاسطواني له. لقد رسم الطبيعة كما هي ورسم التاريخ كما هو في الكتب أيضاً.
وكان يرسم الأشياء ويبسطها إلى درجة الكمال، ثم يهب لها لوناً وملمساً متفرداً، حتى أنه يقول عن نفسه: أنا وجدت نفسي الآن، أرسم الأشياء التي أبحث عن غرابتها وأريد أن يكون رسمي غريباً.ويقول الفنان التشكيلي زياد جسّام إن أعمال دبدوب لا تخلو من رمزية انتمائه لحضارة عريقة أنجبت العديد من المبدعين، وأهّلته لأن تكون لديه مقدرة على تجاوز نمطية الأساليب التي باتت مستهلة، إذ اختار رموزاً جديدة في محاولة لإدراجها ضمن تشكيل الحداثة، فقد استطاع أن يكون من الفنانين الجماهيريين، إذ انتشرت أعماله بين شريحة كبيرة من العالم.
مضيفاً: ربما كان عارفاً بهذا كي يكون خطابه يتبع أثراً مضى. اختار مشغله وتجاربه الذاتية بهدوء، وكان يرسم أعماله وينفذ نماذجه بعناية بعيدة عن التكرار، يراها المتلقي كل حسب زاويته، وإغناء العمل بما يحمل من تقنيات إبداعية هي التي تحدد تعدد الزوايا واختلاف الرؤية من عين لأخرى، إن الإشارات والرموز ذات اللون الأصيل في تقنياته هي التي ميزت أعمال هذا الفنان الرائد. لقد ترك في ذاكرتنا إرثا فنياً ذا قيمة لا تقل أهمية عن إرث الحضارة الرافدينية، إذ أصبحت أعماله تراثاً تشكيلياً وفكرياً في التأريخ المعاصر، فهو يرسم بطريقة التجريب إذ اشتغل على أكثر من مدرسة فنية، واستنبط لوحاته من الواقع بصورة تعبيرية مجردة. إن ما يلفت الانتباه في أعماله خلال مسيرته الفنية تلك الثقوب المرسومة بغرابة، حيث الإثارة والتعتيم والانسياب الذاتي لكتلته التي أصبحت بمثابة بصمة شخصية ميزت كل ما ينتجه، صاغ شخصياته ومفرداته بشكل متراص، إلا أنه ترك بعض الفضاءات لإثراء العمل وإعطائه قيمة دلالية فنية فكرية، توزيعه للألوان النقية والفكرة يجعل اللوحة متحركة بين الشكل والمضمون.
استطاع دبدوب أن ينطلق بعقليته الإبداعية المتوقدة الخاصة باعتماده رموزاً محلية نحو النجومية، إذ أصبح من رواد الحركة التشكيلية العراقية ولم يقتصر على ذلك، إذ إن نجمه يلوح في الكثير من بلدان العالم. إن وعي دبدوب البصري منحه الفرصة الكافية لإنتاج فن عميق وبخياله الواسع راهن على إيقاف المتلقي، وجعله في حوار مشترك يأخذه لعمق اللوحة، حيث التأمل في عالم انفعالي بلغة بصرية توحي بالكتلة والحجم والحركة، هكذا برزت على لوحاته تلك التأملات التي يمكن أن نؤولها أكثر من مرة خلال مشاهدتنا لأي عمل من أعماله، صنعها بتجريد مبسط وحيادية تفصح عن نفسها، خالقاً بذلك تجسيد واقعية الزمكانية، تلك التقنية وفرت له هوية تشكيلية شخصية متفردة، ووحدت أعماله من حيث إمكانية وضعها ضمن إطار تجاور شكل أو مضمون أو الاثنين معاً، دون إحساس بخلل، فكل منهما يكمل الآخر، لوحاته متناغمة في توزيع الفراغ والمساحات اللونية، من هنا تأتي قوة أعماله، حيث المرونة والصلابة في سطوحها، كما أنه أضاف لها نصوصاً ذهنية، حيث اعتمدها وارتكز عليها في عمله التشكيلي، ليصل بها إلى أقرب نقطة من الحداثة.
وحاول راكان دبدوب التركيز على خطاب غير معقد، لكنه غير مبسط أيضاً، هذا سر إبداعه الذي اقتحم به الوسط التشكيلي في بداية الستينيات، إنها تجربة فريدة لها بصمة تعكس ذاته أمام مرآة الفن العراقي المعاصر، وعرف الفنان بنشاطه الفني المتميز، فقد شارك بمئات المعارض المشتركة، فضلاً عن معارضه الشخصية التي تجاوزت 35 معرضاً منذ منتصف ستينيات القرن الماضي حتى أوائل عام 1990 الذي شهد معرضه الشخصي السادس والثلاثين. كانت معارض راكان دبدوب الشخصية مراحلَ نوعية تؤشر نشاطه في مجال البحث الدؤوب والتجديد المستمر، كان هذا الفنان يهتم بمتانة البنيان للوحاته، التي كانت قوية التأسيس مترابطة ما حدا ببعض المعلقين إلى القول بأنه يرسم كأنه ينحت، وبالفعل فقد كانت أعماله المنفذة بشكل خاص في أواخر الثمانينيات وأوائل التسعينيات من القوة والكثافة اللونية ما يوحي للناظر كأنها ذات بعد ثالث. وفي معارضه المتأخرة ومشاركاته في أواخر التسعينيات في العاصمة الأردنية عمان، رأى بعض النقاد أن أعماله فقدت بعض زخمها وكثافتها وربما لعب وضعه الصحي وإصراره على المحافظة على الزخم نفسه السابق دوراً في ذلك.
وفي معرضه الذي أقامـــــه على قاعة نظر، قدم فنان آخر هو الفنان عامر العبيدي أعمالاً عن إنسان مستوحد تستطيل مقـــــاسات جسده ويجلس مستطرقاً ساهماً عديم الملامح تبرز على الخلفية من وراءه تكويناتٌ تكعيبية تشبه الكراسي كأنما صنعت من خشب صلد، وإن موضوع الإنسان المستوحد الصـــــامت التي تكررت بطرق مختلفة ومبتكرة في أعمال الكثير من الفنانين العراقيين في تلك الحقبة تعكس الشعور الحاد بالأزمة الوجودية والاغتراب، وهي غالباً ما تكون قناع الفنان.
أرسل تعليقك