تشغل البرازيل مساحة تقارب 8 ملايين كيلومتر مربع، ما يجعلها تنعم بتنوع جغرافي وبيئي وثقافي، عبر تاريخ طويل من اختلاط الأعراق. يسكن البرازيل 200 مليون نسمة، يتنوعون في ثقافاتهم وتوجهاتهم، لينطبع كل إقليم منها بطابع خاص، بل تختلف لهجاتهم في إطار اللغة البرتغالية في شكل لافت. فأبناء الشمال لهم طقوسهم الثقافية وعاداتهم الشعبية التي تميزهم عن الداخل البرازيلي (الوسط)، ومثلهم الجنوب والغرب الأمازوني.
نتتبع في هذا التحقيق الأغاني الشعبية في شمال البرازيل والإيقاعات المصاحبة لها، ونركز اهتمامنا على ولايتي باهيا وبرنامبوكو في الشمال، إذ تشتهران بموسيقى وتراث غنائي خاص بهما، يُرجعه البعض إلى ارتفاع نسبة السكان من أصول أفريقية في عموم الشمال البرازيلي الذي يتميز بما يسميه باحثو التاريخ والأنثربولوجيا والأدب (ثقافة الشعوب الأصلية). ليس الموضوع قاصراً على الموسيقى والغناء، بل يأتي الطهي كعلامة مميزة جداً للمنطقة عبر أكلات شعبية أشهرها "الكاراجا" في باهيا، وهو طحين خاص في الزيت مع الجمبري وبعض السلطات الخاصة.
يصف أستاذ التاريخ والدراسات الأفريقية والشعوب الأصلية في جامعة (UNBE) إيفالدو مارسيانو، الحياة الثقافية في شمال وشمال شرق البرازيل، بأنها تعتمد على أصولها وهويتها العرقية، مؤكداً أن الأصول تلك لها قيمة كبيرة سواء بين المثقفين أو بين العوام بشكلٍ ما. وهو ما يبدو جلياً في ما يتعلق بالممارسات والأعراف الثقافية، والتي يمثل فيها النص المكتوب المُغنى (القصائد الشعبية والأغاني) إلى جانب الإيقاعات المختلفة، ملمحاً مهماً من ملامح تلك الممارسة الثقافية، وليس خلال الكرنفالات والاحتفالات، بل تمكن ملاحظتها كذلك في الممارسة الحياتية اليومية، وهو ما أكده في كثير من مقالاته حول كرنفال مدينة ريسيفي في ولاية برنامبوكو.
والحدث الفني الأكثر شهرة في الشمال هو مهرجان Parintins، الذي يعقد في حزيران (يونيو) من كل عام، بعدما استحدثه المهاجرون في شرق البرازيل، ليصبح واحداً من أهم المظاهر الفلكورية في البلاد، بما فيه من إيقاعات موسيقية وكلمات أغانيه الشعبية، والتي يرجع بعضها كذلك إلى أصول المهاجرين الأفارقة الذين أثَّروا بإيقاعاتهم الموسيقية وآلاتهم في الغناء البرتغالي بعامة؛ ليس في البرازيل وحدها، بل وفي البرتغال نفسها.
وحدَّثتنا السيدة إلبا أوليفيرا كريزيستمو التي تعمل مدرسة في إحدى المدارس، وباحثة في الجامعة الاتحادية في مدينة سالفادور، عن أنها من خلال بحثها المتعلق بالسكان الأصليين في باهيا، ترى أن الموسيقى والأشعار التراثية المُغناة بخاصة، أكثر جذباً لأجيال عدة من البرازيليين. وتقول كريزيستمو إن السبب وراء ذلك يكمن في أن الأشعار الشعبية التي تشكل التراث الغنائي في الشمال البرازيلي تلمس الجميع في باهيا، "وتذكرنا بالثمن الذي تمّ دفعه لأجل هذه الحياة التي نحياها". وتشير الباحثة هنا إلى أن كلمات "القصائد الشعبية" تراجعت في شكل ملحوظ أمام الإيقاع... "الأطفال هنا في باهيا، حين يسمعون الأغاني يرقصون مباشرة مع الإيقاع. في الحقيقة هم يسمعون القصائد المُغناة، لكنهم لا يدركون معاني طلماتها، ومن ثم لا يشغلهم غير الإيقاع".
ويتشابه فولكلور الموسيقى والغناء في البرازيل مع نظيره في أي مكان آخر في العالم، إذ يحفظ الكثيرون الإيقاعات والأغاني الشعبية، لكنهم لا يعرفون مؤلفها. ويمتاز الشمال البرازيلي –بخاصة ولاية باهيا وعاصمتها سالفادور- بتجمع كبير للعرق الأفريقي، وهو ما يجعل التراث الغنائي في تلك المنطقة خاصاً جداً في بعض أغانيه والتي تتعلق بالحرية وتناقش العبودية وتُشير إلى أرض الأجداد، حتى أن البعض يُرجع كذلك رقصة ولعبة "الكابويرا" إلى العبيد الأفارقة في حقبة الاحتلال البرتغالي، وكيف لجأ هؤلاء إلى التعبير عن المقاومة بالرقص والغناء.
شهدت البرازيل في السنوات الأخيرة نقلات موسيقية كثيرة، أثَّرت على القصيدة الشعبية، وبحسب المطرب ديغاما سانتوس الذي يجمع بين احتراف الغناء والعمل ضابط شرطة في سالفادور، فإنه يقدم القصائد التراثية، ولكن بتوزيعات وإيقاعات عصرية، تتناسب وما يطلبه منه رواد الصالة التي يُغني فيها ليلتي السبت والأحد من كل أسبوع. لنأخذ قصيدة "اللون الأسمر" مثالاً: "اللون الأسمر/ لون الذهب/ اللون الأسمر/ هو كنزي وفق مذاقي/ وفق رأيي/ سوف أحب اللون الأسمر برضا أبي أو من دون رضاه/ اللون الأسمر/ لون الفضة/ اللون الأسمر/ لون يقتلني/ وفق مذاقي/ وفق رأيي/ سوف أحب اللون الأسمر/ والسرور في قلبي".
وبحسب الشاعرة تاييس برونا، التي تدرس الماجستير في قسم الدراسات الأفريقية في الجامعة الاتحادية في سالفادور، فإن لجوء المطربين إلى التراث يرجع إلى الرغبة في الحفاظ على هوية الشمال البرازيلي الثقافية. وسالفادور مشهورة بأنها العاصمة الأفريقية للبرازيل، فغالبية سكانها من أصول أفريقية. ويؤكد ديغاما سانتوس أن هناك أزمة في الشعر الشعبي المكتوب، بخاصة المرتبط بالقصيدة المُغناة، مشيراً إلى أن سطحية المطروح من كلمات دفعته إلى التفكير في إحياء التراث. وتقول تاييس برونا: "الشعراء قليلون في سالفادور، فالشعر لا يلقى اهتماماً هنا مثل الذي يلقاه في برازيليا العاصمة أو ساو باولو وريو دي جانيرو. هنا فقط الموسيقى والإيقاعات تملأ المساحة الفنية تلك، وهذا محزن في شكل ما".
تأثيرات خاصة
يتأثر فولكلور الغناء البرازيلي (والقصيدة الشعبية بخاصة) في الشمال بإيقاعات أفريقية خالصة، مثل، كاريمبو وكاليبسو وماروجادا والتي تتعلق بثقافة السكان الأصليين (الأفارقة والهنود الحمر)، وتمتزج معها إيقاعات "أفروكاريبي" لها صناجة خاصة تتعلق بإيقاع وأغاني "الباتوك" الأفريقية، والتي أكد لنا عبد الله بالدي، وهو باحث دكتوراه من غينيا بيساو، في الجامعة الفيدرالية في سالفادور، أنه تمَّ بناء كثير من إيقاعات السامبا البرازيلية الشهيرة على هذا الإيقاع الأفريقي، وهذه الإيقاعات بدورها استجلبت موضوعاتها الخاصة بمعاناة هؤلاء السكان في زمن الاستعمار البرتغالي.
ويعود الفضل كثيراً في هذه الإيقاعات إلى العرق الأفريقي في البرازيل، والذي اعتمد على آلات موسيقية مثل Marujada والتي تشبه الطبل، cuíca، الدفوف، والكمان، cavaquinho، وغيرها من الآلات التي تحفز على الرقص. كما يحتل الجيتار البرازيلي موقعاً مهما في أغاني الفولكلور البرازيلي بعامة، وعبر "كوردات" موسيقية بسيطة وسهلة الحفظ تساعد على تفاعل الجمهور مع الإيقاع والأغاني التي يقوم المغني الشعبي أو الفرق الشعبية في المهرجانات بأدائها. تقول إحدى القصائد الشعبية والتي تم غناؤها وانتشرت في التراث: "سأرحل، سأرحل يا هديتي/ المشاغل تأخذني/ عليَّ بمسابقات الرعاة يا هديتي/ في حقول المحبة/ في الليلة المظلمة/ يا هديتي/ ظهرتِ لي الليلة كلها/ وفي الفجر يا هديتي/ غادرتِ و تركتني/ والجذوع الجافة حملت الفاكهة يا هديتي/ والقلب أخضر/ والطبيعة بنفسها ضحكت يا هديتي/ في اليوم الذي ولد فيه الحب".
تقول تاييس برونا: "لم يكن الناس قديماً في باهيا (تقصد سالفادور) يفرقون بين الشعر الشعبي وبين الشعر المسرحي وبين الأغاني، فكل ما كُتب كان يمكن غناؤه ما دام يخدم قضية الأفريقي المستعبد، أما الآن فلا يحدث ذلك، والفرق واضح بين هذه الأنواع الكتابية، بخاصة بالنسبة إلى المنخرطين في هذا المجال".
ويميل الكثيرون إلى تكرار جملة أكاديمية مفادها أن "الأدب والفن مرآة المجتمع بكل ما فيه"، وهو ما يجعل الفولكلور الغنائي والقصائد الشعرية الشعبية في البرازيل ليست بِدعاً في ذلك، إذ تصبح الحياة بكل ما فيها مادة خصبة لهذا الفولكلور، فيتغنى بها كلما سنحت بذلك الفرصة، فيغني للطبيعة وجمالها وللطيور والحيوانات من حوله، كما في نص أغنية (Pombinha Branca) "حمامة بيضاء": "يا حمامة بيضاء، ماذا تفعلين؟/- أغسلُ الأطباق لحفلة الزفاف/ الأطباق كثيرةٌ وأنا بطيئة/ طبيعتي أني كسولة/ - يا حمامة بيضاء، ماذا تفعلين؟/- أغسلُ الأطباق لحفلة الزفاف/ مرَّ بي رجلٌ/ ببدلة بيضاء/ وقبعة مائلة/ هو حبيبي/ قلتُ له تفضل اجلس/ بصق على الأرض/ - امسحي يا قليلة النظافة".
وتبرز الأصول الأفريقية مقترنة بطابع كاريبي في نوع من الغناء الفولكلوري يُسمى "كالسيبو"، من ذلك أغنية "الراعي الأسمر": يا راعي يا أسمر/ أُضِيءُ هذه الشمعة لك/ وأطلبُ أن ترد لي حبي الذي فقدته/ يا راعي يا أسمر، رُدَّ لي مكاني/ العجوزة أشعلت النار فيه/ و قلبي ما زال هناك/ أريد أن أري حقل البيتانغا (ثمرة استوائية) الملون ثانية/ أريد أن أرى فتاة الجنوب تلعب بمياه السنغا (ساقية)/ أريد الضرب بسنابك الخيل فوق الصخور/ وأن أتنفس الحرية/ التي فقدتُها يوم خروجي".
مدارس السامبا
بقيَّ هنا أن نُشير إلى أن فولكلور القصيدة الشعبية المغُناة في الشمال البرازيلي استطاع أن يدخل الكثير من الشخصيات التي لها تاريخ في الذاكرة البرازيلية، سواء بشكل ديني أو سياسي، وهو ما تأثرت به مدارس السامبا الحالية، بل وتبني عليه كثيراً من كلمات أغانيها في عصرنا الحالي خلال المهرجانات الشعبية للرقص والغناء. وهكذا ستجد أغاني كثيرة تحمل دلالات حياتية لهذا الإقليم، فهناك أغنية للضفدع، وللرقص، وللماء، وللغابة، وللزوجة الجميلة،... إلخ، فالحياة كلها مادة خصبة تناولها هذا الفولكلور الشعري الغنائي الشعبي بإيقاعاته تلك التي سهَّلت انتشارها بين عموم الشعب البرازيلي.
نعم؛ للفولكلور الشعري الشعبي والغنائي والموسيقي في الشمال سمات تتشابه في عمومها مع الفولكلور البرازيلي، لكنها تحافظ على هوية متفردة ومن أهمها:- قصائد وأغاني مجهولة النسب، فلا يُعرف من أبدعها أو من قام بكتابتها.- كلمات القصائد الشعبية المُغناة سهلة وبسيطة بعيدة عن تعقيدات التراكيب النحوية وقواعد اللغة.- يعتمد بعض القصائد الشعبية على ألعاب لغوية لا يمكن فهمها خارج سياق اللغة عبر الترجمة إلا بتصرف وصعوبة.- ليست قصائد شعرية طويلة، إنما قصيرة، وأحياناً قصيرة جداً.- يغلب تكرار جمل عدة، وليس المذهب فقط كما في الأغاني العربية مثلاً. - تعتمد على إيقاعات رنانة لها صناجة تناسب آلات الإيقاع المصاحب كالطبول والدفوف أفريقية الأصل. - القصائد كلها تعتمد على البيئة المحيطة وتستخدم كل ما فيها كمادة لبناء القصيدة. الإشارة الواضحة إلى العرق الأفريقي (الزنجي) في كثير من تلك الأغاني، العلاقات الغرامية من أهم الموضوعات التي تتناولها، ومن بعدها موضوعات الظلم المتعلق بالأفريقي.
ويضم الشمال والشمال الشرقي البرازيلي ما يزيد على خمسة عشر ولاية من بين سبع وعشرين ولاية تكون جمهورية البرازيل الحالية، ومن أشهر تلك الولايات باهيا وبرنامبوكو، وتمتاز الولايتان بالعديد من العادات والثقافات التي يُرجع المتخصصون أصولها إلى ثقافات العبيد والسياق التاريخي البرازيلي في القرن الثامن عشر، إذ تأثرت المنطقة بكاملها بثقافة هؤلاء العبيد الأفارقة ومعتقداتهم، فجاءت كل أشكال التعبير الإبداعي المكتوب (أغاني وأشعار) والمرئي (الرقص الجماعي والملابس) والمسموع (الإيقاعات الموسيقية) كلها من بوتقة هؤلاء العبيد المغلوبين على أمرهم في ظل الإمبراطورية وقبلها الاحتلال البرتغالي.
واشتهرت مجموعة من الإيقاعات الموسيقية التي أثرت بدورها على الشكل الكتابي لأغاني الفولكلور والشعر الشعبي (العاميّ)، إذ كانت تضع تلك النصوص المكتوبة في اعتبار مؤلفيها أهمية الإيقاعات المنتشرة، والتي تساعد على حفظ الكلام وسرعة انتشاره وترديده، وهو ما يربطه الباحثون في هذا المجال برقصات وكلمات أغاني الكابويرا وغيرها من الإيقاعات الفولكلورية الشهيرة، وكذلك مجموعة الإيقاعات الراقصة ومشتقاتها في الثقافة الشعبية والتي لها تأثير واضح في اختيار الكلمات وطول الجمل الغنائية ومنها في منطقة الشمال الشرقي إيقاعات شهيرة، يرحج البعض أنها ساهمت في ظهور السامبا الحديثة.
وكلها إيقاعات راقصة لا تزال تؤدى أغنياتها ورقصاتها حتى الآن، خاصة في أيام الكرنفال في فبراير من كل عام وكل المناسبات والاحتفالات الشعبية، وهو ما يجعل الكثير من الباحثين في مادة الفولكلور البرازيلي يربط بين شكل الأغنية (الشعر الشعبي) وبين تلك الإيقاعات الموسيقية والرقصات الشعبية، وذلك لما لها من تأثير واضح في شكل القصيدة الشعرية الشعبية المُغناة في التراث البرازيلي الشعبي، بل هناك من يتخصص في ذلك الربط ويتابع حركته التاريخية ودلالاتها الثقافية والاجتماعية داخل المجتمع البرازيلي، مثل د. إيفالدو مارسيانو (أستاذ التاريخ والشعوب الأصيلة والدراسات الإفريقية) والذي أجرينا معه مقابلة خاصة في جامعة ولاية باهيا الاتحادية (UNBE) وشرح لنا ذلك، وعرَّفنا على أبحاثه الأكاديمية في ذلك الصدد، بخاصة في ولاية برنامبوكو (مدينة ريسيفي).
وينبغي أن نشير في هذه النقطة الخاصة بالإيقاعات والفولكلور إلى ظهور هذه الموسيقى الجديدة التي نبَّهنا إليها المطرب ديجاما سانتوس وأشارت إليها السيدة إلبا بملاحظة تلاميذها في المدرسة التي تعمل بها، والتي يمكن ترجمتها إلى العربية "مؤخرة الكلب"، وهي نوع جديد من الموسيقى والإيقاع انتشر بين الشباب، ويستدعي كلمات شديدة البذاءة والرداءة، على حد تعبير سانتوس، وهذا في نظره أحد أهم مهددات التراث الغنائي في البرازيل كلها. ويقول سانتوس: "الآن هناك موسيقى وإيقاعات غريبة، وهي بالتالي تُغني كلمات غريبة، ربما تخدش حياء البعض، يسمونها مؤخرة الكلب، وهي منتشرة بين الشباب الصغير في المدارس والثانويات، وفي النهاية هي موسيقى ويحبون الاستماع إليها، هذا ما يجب الاعتراف به".
وتجب الإشارة إلى أن المطرب والملحن الشعبي ماثيو آلِوِيَ،" كواحد من أشهر هؤلاء الذين عملوا على إحياء هذا التراث البرازيلي الخاص في مناطق الشمال، والذي اهتم كثيراً بما يمكن أن نعتبره تراثاً خاصاً بالفولكلور الأفريقي في باهيا وشمال البرازيل بخاصة، إذ يُعتبر من علامات هذا النوع من الفن الشعبي، وله في ذلك الصدد مشروع رائع تمَّ تنفيذه في أنغولا في عام 1983.
قد يهمك أيضًا
أطفال "الشارقة الدولي للكاتب" يعودون إلى ذاكرة التراث الشعبي المحلي
اكتشاف مقبرتين لم تتعرّضا للنهب من العصر الميوسيني في اليونان على شكل حجر
أرسل تعليقك