لعب المسيحيون من الكلدان الآشوريين السريان دورًا رياديًا كبيرًا ومهمًا في الفنون الموسيقية المختلفة في العراق المعاصر تواصلاً لدورهم التاريخي المعروف في هذا الفن، ابتداءً من سومر وبابل وآشور، ومرورًا بالعصور الساسانية والإسلامية المتقدمة والمتأخرة، فلقد برع هؤلاء في صناعة الآلات الموسيقية، والعزف عليها، والتأليف الموسيقي، وتشكيل الفرق الموسيقية والغنائية وتطوير النظريات الموسيقية، وبرز بينهم ملحنون وعازفون وأساتذة موسيقى ومؤلفون موسيقيون يعدون روادًا لهذا الفن السامي، كان لهم شأن كبير في الحياة الفنية العراقية إلى جانب أقرانهم من القوميات والأديان الأخرى، وكان لبعض الأسماء الريادة في مجالات معينة ومنهم :
حنا عواد 1862-1942
وهو والد الأستاذين الشهيرين كوركيس وميخائيل عواد، ويعدّ واحدًا من أعلام الموسيقى العراقية المعاصرة، ورائدًا من رواد صناعة الآلات الموسيقية وتطويرها، فقد أمضى معظم حياته في صنع الكثير من آلات الموسيقى الوترية الشرقية، وأول ما ابتدأ يصنعه منها الآلة المسماة في الموصل الجنبر، وهي ضرب صغير من الطنبور أو البزق، وكانت هذه الآلة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين كثيرة الانتشار ودائمة الاستعمال في مدينة الموصل وما حولها من قرى.
وبحسب ولديه (كوركيس وميخائيل) إن حنا عواد أدخل تحسينًا عظيمًا على هذه الآلة، فبعد أن كان بدن الآلة، فيما مضى، ساذجًا، يُصنع من طاسة تؤخذ من جوزة النارجيل المجففة صار هو يصنعه من (أضلاع) خشب على غرار ما يتبع في صناعة بدن العود، وأدى تطور صناعة هذه الآلة، بهذا الوجه، إلى تحسين صوتها، إضافة إلى ما اكتسبته الآلة نفسها من أناقة وجمال.
وأقبل حنا عواد أيضًا على صناعة آلة القانون الشهيرة، وأدخل عليها تحسينات جمة منها استبدال خشب "وجه" القانون و"بطنه" اللذين كانا يصنعان من "الدلب" المعروف بالجنار بخشب "الجام"، فأصبح بذلك صوت هذه الآلة جهوريًا ورخيمًا جدًا، فضلاً عما نجم من هذا التحسين من خفة وزن الآلة مما سهل حملها ونقلها، وهذا التحسين الذي أجراه حنا عواد على آلتي "الجنبر" و"القانون" ، برأي العوادَين، يشبه التحسين الذي أجراه زرياب على عوده الذي أصبح يضاهي عود أستاذه إسحاق الموصلي.
وكان العود يستورد من اسطنبول وحلب والشام حتى أواخر القرن التاسع عشر، وكان حنا عواد يقوم بتصليح الأعواد التي أصابها العطب لبعض الضباط الأتراك الذين كانوا يفدون إليه في الموصل، ومن خلال ذلك تعلم سر هذه المهنة فصنع أول عود مماثل لتلك التي كان يصلحها، وكان ذلك بحدود عام 1890. وبهذا يعد حنا عواد أول من أدخل صناعة العود الحديث إلى العراق من دون أن يتلقى هذا الفن على أستاذ.
ويقول ولداه كوركيس وميخائيل في المقال الآنف الذكر إنه صنع 318 عودًا ونحو ألف جنبر و400 قانون و4 كمنجات، ومن بين الأعواد التي صنعها عوده الأخير رقم 318 الذي صنعه في عام 1933 وجعله مسك الختام لحياته الفنية. ويُعد هذا العود رائعته الفنية، فعبر فيه عن براعته المكتسبة خلال حياته، فأدخل عليه من ضروب التفنين في الزخرفة والتطعيم والتخريم ما يخلب الألباب.
وبلغ مجموع قطعه الخشب المتخذة فيه 18 ألف قطعة تتألف من صنوف الأخشاب: الجوز والمشمش والأبنوس والنارنج والجام والدلب والاسبندار، وقد عزف على هذا العود وأشاد به أهم الموسيقيين العراقيين والعرب من أمثال المصري شحادة سعادة والشريف محي الدين حيدر والاستاذ منير بشير، كما وتبوأ هذا العود مكانة مرموقة في معرض موسيقي أقيم في مكتبة المتحف العراقي في بغداد عام 1976.
ويتحدث أكثر من مصدر عن أن بشير القس عزيز( والد الفنانين جميل ومنير وفكري) كان من قدامى صانعي العود في الموصل وعازفًا ماهرًا وشماسًا قديرًا ملمًا بالألحان الكنسية ومرتلاً في كنيسة السريان الأرثذوكس في الموصل.(11) لكن مع الأسف لم نتمكن من الحصول على معلومات كافية عنه.
حنا بطرس ملحن نشيد " موطني" لابراهيم طوقان
فهو رائد العزف والتأليف الموسيقي في العراق منذ تأسيس الدولة العراقية فكان الفنان حنا بطرس (1896-1958) الذي اشتهر بتلحين الأناشيد المدرسية والوطنية، وولد حنا بطرس في الموصل وتخرج في المدرسة الإعدادية عام 1914 وبدأ دراسة الموسيقى على ضابط عثماني لمدة 4 أعوام وفي عام 1918 دخل موسيقى الجيش العثماني ثم رقّي إلى رتبة رئيس عرفاء لنبوغه في الموسيقى، وبعد انتهاء الحرب العالمية الأولى سُرّح من الجيش وعُيّن معلمًا، وفي عام 1921 أقيمت أول دورة كشافية في الموصل فعُيّن حنا بطرس مراقبا للكشافة ومدرسًا للموسيقى.)
وفي ذلك العام (1921) لحن النشيد الموصلي (شعر الشيخ إسماعيل فرج الكبير) ودرب التلاميذ عليه فأنشد في الحشد الجماهيري المتصدي للمطالب التركية في ولاية الموصل، ويقول النشيد:-
لست يا موصل إلا دار عــــــزّ وكرامة
أنت فردوس العراق حبذا فيك الإقامة
وقدّم حنا بطرس الكثير للحركة الموسيقية العراقية، فقد أدار أول جوق لموسيقى الجيش في الموصل عام 1923، ودرَّس الموسيقى في دار المعلمين الابتدائية في بغداد عام 1925، وتخرج في المدرسة الدولية البريطانية في العام 1931، حاصلاً على دبلوم بدرجة امتياز(بروفيسيانس) في علوم الموسيقى والتأليف والقيادة الموسيقية، وأسس في عام 1936 المعهد الموسيقي في وزارة المعارف في بغداد وكان أول مدير له قبل استقدام الشريف محي الدين حيدر(تحول هذا المعهد فيما بعد إلى معهد الفنون الجميلة، وأصبح حنا بطرس معاونًا للعميد فيه) وعمل كذلك مشرفًا على الموسيقى والنشيد في إذاعة قصر الزهور منذ تأسيسها من قبل الملك غازي الأول عام 1936، وفي عام 1941 شكل وقاد أول فرقة سمفونية عراقية ضمن معهد الفنون الجميلة، قدمت حفلتها الأولى على حدائق الكلية الطبية الملكية في بغداد،
وربما القليل جدًا من العراقيين والعرب يعرف أيضًا إن النشيد الوطني المعروف:" موطني .. موطني/ الجلال والجمال في رباك"(كلمات إبراهيم طوقان) والذي تعلموه في المدرسة وذاع صيته في معظم البلدان العربية هو من تلحينه، وألف حنا بطرس العديد من الكتب في الموسيقى منها: كتاب "مبادئ الموسيقى النظرية ، بغداد 1931" و كتاب "مبادئ النظريات الموسيقية ، بغداد 1945"، وكتاب "الأناشيد الوطنية والقومية" 1945، الذي ضمَّ عددًا كبيرًا من الأناشيد التي قام بتلحينها وتقديمها في فترة الثلاثينيات والأربعينيات والخمسينيات من القرن الماضي.
وله مؤلفان آخران هما " حياة الموسيقيين العالميين" و "وأصول قيادة الاوركسترا" ومؤلفات عدة للكمان والبيانو، فضلاً عن ذلك ترك عددًا من الكتب غير المطبوعة التي يذكرها أبنه باسم في مقاله المذكور منها: تاريخ الموسيقى- بغداد 1952 وقاموس المفردات الموسيقية (إنجليزي – فرنسي- عربي) 1956 ومدونات التراتيل الطقسية الكلدانية- 1956.
وكان حنا بطرس شماسًا إنجيليًا ومؤديًا قديرًا لتراتيل الطقس الكنسي في الكنيسة الكلدانية، وهذه التراتيل هي عبارة عن مقامات يؤديها الشمامسة في الكنائس الشرقية السريانية (الآشورية الكلدانية السريانية) منذ القرون المسيحية الأولى في الأقل، وهي المقامات التي عليها تأسس فن المقام العراقي فيما بعد، وتدرج حنا بطرس في رتب الخدمة الكنسية بدرجة (شماس إنجيلي) مؤديًا قديرًا لتراتيل الطقس الكنسي الكلداني.
وسجل فيها أول اسطوانتين فونوغرافيتين لشركة (صوت سيِّدِه – His Master’s Voice) بمصاحبة الكمان (عازف الكمان سامي الشوا – من حلب) والقانون (نوبار ملهاسيان – أرمني من تركيا) والعود (داؤد الكويتي موسيقار يهودي من العراق)، ضمَّنها أربع تراتيل، منها "كاروزوثا دحشّا" و "قوم شبير" باللحن الخاص في الجمعة العظيمة، و"قصة كيّاسا".
ومن مقطوعاته الموسيقية - الروندو الشرقي (للكمان والبيانو، ثم للأوركسترا السمفونية 1936) و(اللحن العربي- للكمان والبيانو، 1938)،- تأملات موسيقية (للفرقة الهوائية والفرقة السمفونية 1941) في خمسة مصنفات (مجموعة من القطع الموسيقية المؤلفة خصيصًا لأجواق الموسيقى الهوائية ، لحنَّ عددًا من التراتيل الكنسية، وخصوصًا لحن بأربعة أصوات (هارموني) لترتيلة (طاس وَن حيث رَيش ، إنحدر ملاك من السماء) الخاصة بقيامة المخلص.
أرسل تعليقك