الفنان التشكيلي أحمد اللباد
الكاريكاتير، من خلال مسيرة الفنان الكبير محيي الدين اللبَّاد، التى يضمها كتابه "نَظَر"، الصادر حديثًا عن الهيئة العامة للكتاب. و"نَظَر" عنوان مقالات اللباد التي جمع فيها أعمالاً نقدية مصورة ومرسومة، نُشرت من قبلُ في مجلات وصحف، ثم جمعها بعد ذلك في أربعة ألبومات، ثُم تَم تجميعها في هذا الكتاب. أدار اللقاء الشاعر فتحي عبد الله، وقدم ضيوفه قائلاً: الكتاب الذي نناقشه له طبيعة خاصة، ويعتمد على طريقتين في الأداء.. الأولى: فن الكاريكاتير، وهو فن يقوم على الرسم، والثاني: فن الكتابة المصاحبة للكاريكاتير أكثر.
وأضاف، فن الكاريكاتير نشأ على يد مجموعة من الأجانب المقيمين في مصر، وظهر في المجلات الأجنبية، ثم تطور عبر الرموز المصرية، وكان له دوره الواضح منذ بدايته، حيث انحاز للحالة الشعبية، ولعب خلال فتراته المتعاقبة دورًا سياسيًا مهمًا، وهو يتجاور مع عمل المفكرين وكل أعمال المقاومة، أو وسائل التوعية أو مواجهة السلطة، ولهذا تعرض كثير منهم إلى المضايقات، منها الطرد من العمل، أو تضيق العمل على فنانيه.
وأشار إلى أن أشهر مدرسة لفن الكاريكاتير ظهرت في "روزاليوسف"، حيث خرج منها الكثير من فناني الكاريكاتير، الذين ذهبوا إلى أماكن عربية كثيرة، نشروا فيها هذا الفن، ومن أشهرهم محيي اللبَّاد.
وأكد أن عمل اللبَّاد لم يقتصر على الكاريكاتير، ولكن أسهم في صناعة الكتاب وتطويره، ليس في مصر فحسب، وإنما في المنطقة العربية كلها، وأسهم مع مجموعة من فناني الكاريكاتير في خلق نوع ومعرفة وجماليات جديدة في هذا الفن، ولعب دورًا أساسيًا في ما هو سياسي عن طريق فنه.
جدير بالذكر أن هذا الكتاب صدر في أكثر من نسخة، ولقي صدًى كبيرًا، وهو الآن يَلقى إقبالاً من القراء والناشطين السياسيين والمثقفين.
من جانبه، قال الفنان التشكيلي أحمد محيي الدين اللبَّاد: الكتاب يجمع الألبومات الأربعة التي أصدرها اللباد منذ منتصف الثمانينات، وحتى التسعينات، ويعتمد على مقالات نقدية بصرية متنوعة الموضوعات.
وبدأ اللبَّاد العمل منذ العام 1956، وهو في الثانوية العامة، حيث كان يراسل مجلة "السندباد" للأطفال، ثم فيها عمل باحتراف برعاية حسين بيكار، الذي تبناه وطلبه للعمل بشكل احترافي، وأعطاه فرصة العام 1958، وجعله يعيد إخراج المجلة.
وأضاف: اللباد بحكم تكوينه كان باحثًا عن هذا النوع من العمل، فعمل في مجلة "صباح الخير" على روافد عدة، كلها مربوطة بالإبداع البصري، وكما كان يقال وقتها "مشى صلاح جاهين من صباح الخير ففكوه بثلاثة رسامين كان اللباد واحدًا منهم".
وبدأ في العام 1985 كتابة سلسلة مقالاته بعنوان "نَظَر"، وهو عنوان الكتاب نفسه، وتكلم فيها عن أوضاع وأفكار كثيرة، بالإضافة إلى كل القضايا، سواء كانت سياسية أو اجتماعية.
وكان عدوُّه الأول طوال حياته إهدار الوقت على جميع المستويات، وكذلك العمل في جزر منعزلة، لأنها لا تعطى مساحة للإنتاج الذي تستحقه المهنة، بالإضافة إلى المعوقات التقنية التي تسبب عدم وجودها في إهدار الوقت من الآخرين، وكان يتغلب عليها بأن يعمل أكثر، فكان ينشر في أماكن متعددة، حيث لم يكن له مكان مخصص للنشر بشكل دائم، بسبب طبيعة القضايا التي كان يتناولها، كما تعرض في بعض السنوات إلى المنع، ولم يكن مسموحًا له فيها أن ينشر عمله في الكاريكاتير.
وأشار اللباد الابن إلى أن المقالات مرايا تعبر عن شخصية والده الواسعة، وفي 2004 كان عنده تجربة خاصة سماها "المجاورة".
وأكد أن والده حتى وفاته، ورغم عدم تكريمه من الدولة، لم يكن لديه إحساس بالمرارة من عدم التقدير الرسمي لفنه، قائلاً: والدي كان يسألني دائمًا هل قدمت للحياة ما يستحق؟، كما أنه لم يتقدم لنيل جوائز، حتى الجوائز التي حصل عليها عالميًا، مشيرًا إلى أن والده عُرض عليه في إحدى المرات جائزة كبيرة للأطفال في مصر ورفضها، من دون أي صخب إعلامي، خوفًا من أن يسهم في إرساء الوضع وقتها.
من جانبه، قال الكاتب الصحافي، المهتم بشؤون الكاريكاتير المصري، محمد البغدادي: عندما نتحدث عن محي الدين اللبَّاد ، فنحن نتحدث عن فنان استثنائي في زمن سادت فيه "اللهوجة"، والفساد على كل المستويات، ففي هذا الزمن القبيح كان كالقابض على الجمر، لمواجهة كل هذا القبح الذي يحيط بنا.
تعرّفت عليه منذ صغري عبر صفحات مجلة "السندباد"، ثم التقيت به عندما التحقت للعمل في مجلة "صباح الخير"، وأصبحت زميلاً له، وفي آب/ أغسطس 1985، توليت الإشراف الفني للمجلة، وفوجئت به يحمل صفحتين من الماكيت وفيهما موضوع معنون بكلمة "نَظَر"، وسألني عن رأيي، وأنا كنت من المنبهرين به، وبالإخراج الفني الرائع الذي يتميز بالدقة الشديدة، التي أزعجت الكثير من رؤساء التحرير، باستثناء حسن فؤاد.
وأضاف: قديمًا كان كل شيء يمارس باليد، وكانت درجات الدقة تختلف من مخرج فني إلى آخر، ولكن اللباد كانت كل الأمور معه تتميز بأنها في غاية الدقة، ثم بدأ يتابع إحضار الصفحات جاهزة، ومن شدة انبهاري به كنت أحتفظ بكل الماكيتات الخاصة به، وبعد أن أتم تجربة كتابه "نَظَر1" ، فاجأتُ اللباد بأني أحتفظ بكل الماكيتات التي كان يُحضرها، وقلت له كل هذه الماكيتات يمكن أن تخرج بهم كتابًا، فرد قائلاً: هل يُهمّون أحدًا؟، فقلت له "أنت توجه من خلالهم هجومًا حادًا إلى كل القبح الذي يحيط بنا".
وأشار البغدادي إلى أن اللبَّاد انتقد المقاولات التي تقوم بها المحليات لتضع أسماكًا وضفادع لتزيين الميادين، فهو كان غرافيتي وصانع كتب ورسام كاريكاتير متميزًا، كما كان مصممًا لكتب الأطفال ورسامًا ومثقفًا مصريًا شديد الحساسية والحرص على التراث المصري.
وأوضح البغدادي أن مشكلة اللبَّاد أنه كان شديد التواضع، وكان لا يثق في ما يقدمه، وهذا هو الفنان الأصيل، المتواضع، ومع ذلك فهو لم ينل التقدير الكافي في مصر، في المقابل حصل على جوائز عالمية عدة مرموقة، وذات سمعة عالمية، وقد طالبت في مقال في صحيفة "المصري اليوم" بجائزة تقديرية له، ولعدد من رسامي الكاريكاتير، ولكن لم يستمع أحد.
وقال البغدادي: انزعجت عندما حصل الفنان مصطفى حسين على جائزة الدولة التقديرية وبعدها جائزة مبارك، التي تسمى الآن جائزة النيل، فيما لم يحصل اللباد الذي انشأ وأسّس لفن صناعة الكتاب برؤية جديدة على هذه الجوائز، وكذلك الفنان حجازي، فهما الاثنان رحلوا عن عالمنا دون الحصول على تقدير كافٍ من الدولة المصرية.
وأضاف: ما يحدث مع فناني مصر العظام يعد عبثًا، لأن هؤلاء الفنانين العظام يستحقنا أكثر من ذلك بكثير، ضاربًا مثالاً بأحد الفنانين الذي ورطه البعض وقالوا له: لماذا لم تأخذ جائزة حتى اليوم، فقدم أعماله، فحصل على جائزة التفوق، وهي أعلى من الجائزة التي تمنح للشباب المبتدئين.
وتابع: اللباد لم يكن له ظهور إعلامي في التليفزيون المصري رغم احتفال الإعلام العربي به، ذاكرًا أنه سبق وطلب عندما تولى الإشراف على الإخراج الفني في مجلة روزاليوسف العام 1986، من اللبَّاد أن يستضيف ريشته كل أسبوع، وقتها قال له اللباد إن هذه أول مرة يطلب منه أحد أن يعمل معه، مشيرًا إلى أنه كان دائما يبادر هو بالعمل، وقال: "يظهر أني تقيل على قلبهم، لأني بعمل حاجات مستقبلية" .
ولفت البغدادي إلى أن اللبَّاد أعاد إحياء الاحتفال بالتراث الشعبي، فهو أول من فكر في عمل التجليد الداخلي للكتاب، وهذا كان موجودًا في التراث القديم للكتب التي تصنع في بغداد أو دمشق، كما اقترح أشكالاً لأبطالنا من التراث الشعبي، مثل أبوزيد الهلالي وعنترة بن شداد، بدلاً من باتمان.
وأعرب البغدادي عن تعجبه من أن تكون منظمة اليونسكو تعلم من هو اللبَّاد، وتعرف قيمته، ومصر لا تقدره لأن الموجودين كمسؤولين وقتها لم يكونوا على وعي أو ثقافة ليدركوا قيمته.
وأكد البغدادي أن مستوى الكاريكاتير بعد الثورة، أصبح أفضل، مشيرًا إلى أنه قبل الثورة انتابه اليأس من أن تظهر ريشة جديدة تحدث الدهشة، وتغير من المجتمع، باستثناء عمرو سليم الذي تطور وأصبحنا كلنا فخورين به، وبعد الثورة استرد الكاريكاتير وضعه وعافيته مرة ثانية، فأعجبتني دعاء العدل في جريدة "المصري اليوم"، وكم أسعدني أن الكاريكاتير أصبح له رسامات، لأنه كان يزعجه عدم وجود رسامات للكاريكاتير.
وفي نهاية الندوة أشاد البغدادي، برئيس الهيئة العامة للكتاب، الدكتور أحمد مجاهد، لاهتمامه بإصدار الأعمال الكاملة لعدد من المؤلفات القيّمة لكبار الكتّاب، لافتًا إلى أنه عمل وطني وليس ثقافيًا فقط، لأن مصر هويتها الثقافية تتآكل وتُسرق منها، فنحن في زمن علينا المقاومة في مواجهة رِدَّة نعاني منها الآن، فالهوية الإسلامية والعربية مكون رئيس في الهوية الثقافية، كما أن مصر دولة عظمى ثقافيًا.
جدير بالذكر أن الفنان الراحل محيى الدين اللبّاد عمل منذ مرحلة دراسته الثانوية وحتى أيامه الأخيرة بشغف، وبأمانة نادرة، وبتدقيق، وتفرّد على مشروع بصري لا مثيل له في منطقتنا العربية.
رسم اللبّاد للأطفال وكتب لهم، ورسم الكاريكاتير، ورسم للصحافة، وألّف وصمَّم الكتب والأغلفة والملصقات، وغيرها من المطبوعات التي اخترعها اختراعًا.. كما أسس الكثير من المشاريع الثقافية (الثقيلة) العربية والمصرية، للصغار والكبار، وأشرف عليها فنيًا وتحريريًا.
نال التقدير المحلي والعالمي الذي تمثّل في ترجمات وإعادة نشر لأعماله، لا سيما تلك الكتب التي حصدت جوائز رفيعة متخصصة لم يذكرها كثيرًا وهو الخجول بطبعه، بما كان يليق بها وبه.
وحاضَر وحكّم المسابقات العالمية، ونَقَد وكَتَب في كل القضايا البصرية وفسّرها، وأعاد ربطها بالسياسة وبالمجتمع، بعد أن جدّف بها البعض بعيدًا عن شاطئ الحياة لتصبح "فنية" ونخبوية بامتياز للأسف.
في كل مجالات عمله وبكل الوسائط البصرية المتاحة كان همه الأول هو شرخ المستقر، وإعادة الاكتشاف، والخلق والتجديد، والثقة في ثقافتنا الوطنية والقومية، ولفت الانتباه إلى طليعيّة وخصوصيّة محتويات متعددة فيها، ومحاولة التراكم بها وفوقها.. وأيضًا هضمها لتجاوزها لصالح مستقبل أكثر ملاءمة واتساقًا مع زمنه وعصره.
وظل مع هذا طوال عمره يقف ممتلئًا بالثقة، وبثبات الندّ الذي يحترم ويستقبل المنتج الثقافي الأجنبي والغربي بالنقد لسوءاته، أو عنصريته وسيادته من دون وجه حق في أحيان، أو يُعرِّف ويُبشِّر بفرح بالجانب الإنساني للفنان السمح فيه، في أحيان أخرى.
في منتصف ثمانينات القرن الماضي (العام 1985)، وفى مجلة "صباح الخير" القاهرية بدأ اللبّاد بوتيرة أسبوعية نشر موضوعات في باب أسماه "نَظَر" (بفتح النون والظاء)، وكانت تلك الموضوعات فريدة المحتوى والشكل: قام بكتابتها وإخراجها وتصميمها وتنفيذها بنفسه، معتبرًا أن قالبها الشكلي هو جزء أصيل من جسم الرسالة التي أراد مشاركة القرّاء فيها.
في تلك المقالات، بدت بوضوح رؤية نقدية وتعريفية حديثة، عكست شخصيته الشجاعة الذكية المُعلّمة، وعكست كذلك خِفّة ظله، وعمق آبار خبراته، ومتانة تكوينه، وأظهرت ميوله السياسية الإنسانية، وكذا في الحياة والفن، عبر الملاحظات البصرية والتشكيلية والغرافيكية.
وقد شجعه إعجاب المتلقِّين ليجمع بعد قرابة العامين تلك المقالات، وينشرها (كما ظهرت على صفحات المجلة في ما أسماه ألبومًا، وبعنوان الباب نفسه "نَظَر").
وبعد نشره مقالات جديدة متفرقة في سنوات عِدَّة أصدر الألبوم الثاني "نَظَر 2"، العام 1991.
وانتظر لاثنتي عشرة سنة بعدها لينشر الألبوم الثالث "نَظَر 3" بعد أن تنوّع خلالها نشر الموضوعات على مطبوعات عدة ثقافية مصرية.
وفي العام 2004 كانت له تجربة مهنية وروحية خاصة جدًا، فَضّل تسجيل وقائعها مباشرة في ألبوم جديد؛ فكان "نَظَر 4"، من دون نشر صحافي مسبق لمحتواها، كالألبومات الثلاثة السابقة، وكان هو الألبوم الأخير.
الألبومات - وعلى ما فيها من واسع المعرفة والمتعة - لهي وثيقة مهمة تتعلق بزمنها، وتعرّف بالكثير عن فنان فريد، كان بصر العين وبصيرتها مشروعه الكبير.. تلك العين التي طالما عُنِي بسلامتها والتأكد من ذكائها ولياقتها، لتصل عبرها رسائل الوجود وتساؤلاته ومعانيه إلى صميم النفس.
أرسل تعليقك