أن تنجح، يعني أنك مررت بمحطاتِ إخفاقٍ أحسستَ فيها بالعجز عن تحقيق هدف مُعيّن رسمته لنفسك، وما كان منك حينها سوى احتضان المعنى الحقيقي للإخفاق، والانطلاق من خلاله إلى النجاح؛ فالسقوطُ ليس عيبًا، وإنما العيب هو بقاؤك حيث السقوط، وهذا ما تؤكده حكايتنا المُلهِمة في السطور القادمة.
الحكاية عنوانها الدكتور زاهر بن بدر الغسيني أستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، ومساعد عميد شؤون الطلبة للتوجيه والأنشطة الطلابية، وتفاصيلها تبدأ مع إخفاق دراسي له في الثانوية العامة عام 1996م، حين لم يُوفّق في الحصول على النسبة المطلوبة لدخول إحدى مؤسسات التعليم العالي في السلطنة، فكانت لحظة يأس وإحباط؛ “أن ترى زملاءك يشقون طريق مستقبلهم بنجاح، لتحقيق آمالهم وطموحاتهم، وأنت تعيش التمزق النفسي مع ذاتك، تشعر فيه أنك قادر على الوصول”.
بسبب الظروف المادية وقتها، التحق للعمل في شرطة عمان السلطانية 1/6/1996م، وبعد إكمال فترة التدريب العسكري في أكاديمية الشرطة وقتها “أكاديمية السلطان قابوس لعلوم الشرطة” بمسمّاها الحالي، التحق للعمل الشرطي وهي الفترة التي أكّد بأنها “كانت تجربة ثرية ومدرسة حياتية في “الضبط والربط”، واحترام الوقت، وسلوكيات تنظيم الحياة وأولوياتها.
بعد الاستفادة من الحياة العسكرية، كانت لديه رغبةٌ كبيرةٌ في خوض تجربة جديدة تُثري حياته المهنية، فانتقل عام 2002م إلى العمل في وظيفة إدارية بشؤون البلاط السلطاني، وتحديدًا في المديرية العامة للتموين، فكانت تجربة إدارية لها إيجابياتها.
ولأن تحقيق الذات يُعدّ من أقوى معارك الشخص مع نفسه، كانت قناعته بأن فشل اليوم لا يعني عدم النجاح غدًا، وأن الأمر لا يحتاج سوى للثقة بالنفس، والإيمان بالذات وما تملكه، ومعرفة مواطن قوتك، فكان عليه بذل قصارى جهده لإعادة قراءة ذاته من جديد، إيمانًا بقدراته، وأن كل إنسان يأخذ بالأسباب؛ سيُكتب له النجاح، سيرًا على قوله تعالى: (وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى* وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى)، وهنا يتذكر الدكتور قول أمير الشعراء أحمد شوقي الذي يسير عليه في نظرته للحياة بكل معطياتها ومطباتها:
وَما نَيلُ المَطالِبِ بِالتَمَنّي وَلَكِن تُؤخَذُ الدُنيا غِلابا
وَما استَعصى عَلى قَومٍ مَنالٌ إِذا الإِقدامُ كانَ لَهُمْ رِكابا
فكَّر الدكتور في إعادة الثانوية العامة من جديد “دبلوم التعليم العام” بمسمّاها اليوم، ولأنه لا يوجد نجاح وتحقيق أهداف دون تضحيات؛ فإن القرار لم يكن سهلاً، والمرحلة لم تكن على طبق من ذهب، بل تحتاج إلى جهد مضاعف، وقرار حاسم يستوجب تغيير نمط الحياة اليومي، حتى مع المجتمع المحيط، ويتطلب جهدًا بدنيًا كلّفه الخروج بعد ساعات الدوام الرسمي، للالتحاق بحصص التقوية العلمية التي كان يُقدّمها معلمو مدرسة روي الثانوية آنذاك “مدرسة فيصل بن تركي” بمسمّاها الحالي.
الأخذ بالأسباب كان سبيلًا لتحقيق الهدف، فقد تقدّم للاختبارات بنظام الدراسة الحرة في التعليم العام، ووفقه الله تعالى للحصول على نسبة 95.16%، وحصل على موافقة التفريغ لإكمال الدراسة من شؤون البلاط السلطاني، وعلى ضوئها حصل على مقعد دراسي لـ “البكالوريوس” في جامعة السلطان قابوس، وتحديدًا برنامج “بكالوريوس التربية، تخصص: اللغة العربية”.
خلال الفترة من 2003-2007 أمضى دراسته للبكالوريوس في صرح جامعة السلطان قابوس، ولم يكن دخوله له مجرد مرحلة تحصيل معرفي فحسب، بل أيضًا للاستفادة من كل الخدمات الموجودة، والمشاركة في الأنشطة اللاصفية التي استفاد منها كثيرًا. يصف تلك المرحلة لـ “أثير” فيقول:” كانت الحياة الجامعية فرصة لتطوير الذات من كل الجوانب دون الاقتصار على مقاعد الدراسة والمحاضرات فحسب، ونلتُ شرف الحصول على المكرمة السامية للطلبة المجيدين علميًا، وكانت إلى أستراليا. وفي عام 2007م أنهيت دراسة البكالوريوس في المركز الأول بكلية التربية بجامعة السلطان قابوس، بتقدير “امتياز مع مرتبة الشرف”، وبمعدل تراكمي 3.86 من 4”.
بعد التخرج، كانت الفرصة مواتية للدكتور للحصول على فرصة العمل الأكاديمي في وظيفة “معيد”، باعتبار أن معدل التخرج يؤهله للمنافسة على الوظيفة، إلا أن العائق وقتها كان يتمثل في موافقة جهة عمله على الانتقال للعمل الأكاديمي حال قبوله، وهو أمر لم يكن صعبًا بدعم المعنيين في شؤون البلاط السلطاني، إيمانًا منهم بأن خدمة الوطن لا تنحصر في مكانٍ بعينه، فانتقل للعمل الأكاديمي في جامعة السلطان قابوس.
خلال الفترة 2007-2009 باشر التدرج في العمل الأكاديمي في وظيفة “معيد”، ثم في 2009م ابتُعث لإكمال الدراسات العليا “الماجستير” في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس في المملكة المغربية، وأنهى الماجستير في التفاعل الثقافي المتوسطي، وتخرَّج من الماجستير بالمرتبة الأولى على البرنامج، وهي أول جائزة علمية يحصل عليها طالب عُماني في جامعة محمد الخامس، وتمّت معادلتها لاحقًا بدرجة الماجستير من جامعة (كومبلوتنسي مدريد، بمملكة إسبانيا).
على ضوء نتيجة الماجستير في جامعة محمد الخامس، مُنِح القبول لإكمال دراسة الدكتوراة الأولى في الجامعة نفسها، وكان الطريق صعبًا وشاقًا، إذ أجبرته ظروف العمل على العودة للوطن بعد إنهاء الماجستير، ومباشرة العمل الأكاديمي وفق اللوائح الإدارية لذلك، فكان التواصل مع المشرف على الأطروحة على فترات معينة، وفق خطة سير المشروع البحثي.
في عام 2013م ابتُعِث إلى جامعة إشبيلية في مملكة إسبانيا لإكمال دراسة الدكتوراة باللغة الإسبانية في (كلية الفلسفة – الفلسفات المتكاملة)، مجال: (التفاعل الثقافي والعالم العربي الإسلامي)، ولم يكن الطريق مفروشًا بالورود أيضًا؛ إذ كان عليه إكمال الدكتوراة الأولى في المملكة المغربية، وفي الوقت نفسه البدء في دراسة اللغة الإسبانية الأكاديمية من مرحلة الصفر في إسبانيا، وهي مرحلة تحتاج لمضاعفة الجهد، خاصة أنها لغة جديدة، وتحتاج لصبر وجهد مضنٍ، وصل فيها لمرحلة اليأس والتفكير في الانسحاب وتغيير بلد الدراسة، إلا أنه وبالعزيمة والصبر والثقة بالنفس؛ اجتاز مرحلة الدكتوراة الأولى في جامعة محمد الخامس بالمملكة المغربية، ومُنح الدرجة العلمية في مايو 2014، في مجال التفاعل: (الإنسان والمجال في العالم المتوسطي)، بتقدير (مشرف جدًا/امتياز)، ثم تفرّغ بعدها لإكمال دراسة اللغة الإسبانية الأكاديمية للبدء في برنامج الدكتوراة الثانية في جامعة إشبيلية، واجتاز المرحلة بكل مطباتها، وظروفها النفسية التي كانت مثبّطة في بعض الفترات الدراسية، ومُنح الدرجة العلمية في سبتمبر 2017 بتقدير (Sobresaliente / امتياز مع مرتبة الشرف)، ليلتحق بعدها للعمل من جديد وبوظيفة أستاذ مساعد في كلية الآداب والعلوم الاجتماعية بجامعة السلطان قابوس، ثم مُنح ثقة إدارة الجامعة في تعيينه مساعدًا لعميد شؤون الطلبة للتوجيه والأنشطة الطلابية، وهي مرحلة قال بأنها “مُثرية إداريًا؛ فالمزج بين العمل الأكاديمي والعمل الإداري، بحد ذاته هو إثراء معرفي وإداري”.
يقف الدكتور زاهر الغسيني اليوم بقصة نجاحه مُشجِّعًا لكل من حاول اليأسُ النيلَ منه، ليوجّه رسالةً لأبناء عُمان عبر “أثير” فحواها: “الفشل كان بداية انطلاقتي في المراحل الوظيفية المتنوعة: العسكرية، الإدارية، والأكاديمية، ولكل مرحلة إيجابياتها، ويبقى طموح الإنسان دائمًا تطوير ذاته وفق هدف محدد يرسمه لنفسه، ولا يمكن أن يتوقف مشوار الشخص في مرحلة إخفاق معين، وفق ظروف معينة لم تكن مواتية للنجاح آنذاك، لكنّ الأخذ بالأسباب، والثقة بالنفس، ثم الإيمان بالقدرات، فتحديد الهدف وفق مسار واضح تحدده لنفسك، في إطار زمني محدد، عوامل ستُدرك بها جيدًا أنك في الاتجاه الصحيح”.
قد يهمك أيضا:
جامعة السلطان قابوس تحرز تقدما في تصنيف عالمي للجامعات
أرسل تعليقك