في وقتٍ تُلقي فيه جائحة تفشِّي فيروس كورونا المستجد (كوفيد 19)، بظلالها السلبية على المسارات المستقبلية للتنمية الاقتصادية في العديد من دول العالم، يُسجَّل للمملكة العربية السعودية ثراء في جهود تحصين اقتصاد المملكة بلقاح "التنويع الاقتصادي" المُتوافق مع أهداف ومرتكزات "رؤية 2030"، والمُحفِّز لمناعة مُستدامة طويلة الأجل، بما يُحقِّق توسيعَ قاعدة الدخل وتقليل الاعتماد على العائدات النفطية.
وبينما تشير تقارير دولية وتحليلات اقتصادية متواترة إلى قُدرة العديد من القطاعات التنموية في المملكة على قيادة دفة التحول الاقتصادي، كالقطاع الصناعي واللوجستي والتجزئة..وغيرها، يُقدِّم القطاع الزراعي نفسه كأحد الروافد الرئيسة بل والضامنة لتحقيق تنويع مُستدام، بمؤشراتٍ تعكس حجم منجزاته وقدرته على توفير الأمن الغذائي ورفع مُعدلات الناتج المحلي الإجمالي.
ولعلَّ نمو القطاع بنسبة 3.2% -والمسجَّلة في الربع الأول من العام الجاري- بإجمالي 16.6 مليار ريال سعودي (4.43 مليون دولار أمريكي)، وبزيادة نحو 517 مليون ريال سعودي عن العام 2020م، بقدر ما تعكس نجاعةً في خطط حكومة المملكة المحفزة للقطاع، بقدر ما تُبرز بالمقابل جُملة مُمكنات استثمارية واعدة؛ خصوصًا وأنَّ النشاط الزراعي في المملكة يشمل كافة المنتجات النباتية والحيوانية وصيد الأسماك إضافة إلى مُنتجات العسل.
وتستهدف المملكة من خلال خطط دعم وتحفيز البيئة الاستثمارية في القطاع الزراعي، ومن خلال جهود تنظيم توزيع الأراضي، ودعم مُدخلات الإنتاج، وتوفير خدمات مُساندة للعمليات الإنتاجية، وتوسيع البُنى الأساسية، ودعم الأسعار النهائية لبعض المنتجات، وتشجيع إنشاء وجذب المشاريع المتخصصة والشركات المساهمة ذات الكثافة الرأسمالية الكبيرة المحلية والأجنبية، واستخدام أحدث الأساليب الزراعية والتقنيات العالمية المتوافقة مع متطلبات الثورة الصناعية الرابعة في لزيادة الإنتاج الزراعي، وتحسين الظروف الاقتصادية والاجتماعيـة للعاملين في القطاع، وتشجيع خطط زيادة الإنتاج بشقيه الحيواني والنباتي، مع المحافظة على الموارد الطبيعية، كلها تهدف بالأخير إلى وصول سلس للمستهدفات المرسومة في الإستراتيجية الوطنية للزراعة، التي آتت ثمارًا واعدة بالإسهام في تحقيق نسب مرتفعة من الاكتفاء الذاتي لعدد من المنتجات الغذائية؛ كما في لحوم الدواجن والتي بلغت نسب الاكتفاء منها في المملكة 65%، وبيض المائدة 116%، والخضراوات والفواكة 87 و38% على التوالي، فضلًا عن تغطية سلاسل الإمداد الزراعية والخدمات اللوجستية المساندة..وغيرها، والتي أسهمت في تحفيز القطاع الخاص السعودي والعديد من الشركات الاستثمارية الأجنبية للاستثمار في مُختلف الأنشـطة الزراعية على أرض المملكة.
بيئة تشريعية معززة
ولقد نجحت المملكة العربية السعودية، وعلى الرغم من كونها ليست بالدولة الزراعية بالمعنى الحرفي (إذ تُقدَّر مساحة الأراضي المؤهَّلة للزراعة بنسبة 22.7%، بينما القابل للاستصلاح الزراعي منها 380 ألف كيلومتر مربع فقط)، في انتهاج خُطط جيدة لتعزيز فرص الاستثمار المحلي والأجنبي في القطاع الزراعي؛ وأسهمت في تحويل عدد من المناطق الصحراوية إلى أراضٍ مُثمرة، عبر مشاريع ري وتحسين التربة على مستوى عالٍ من الابتكار، احتلت بناءً عليها المملكة المركز الثاني في إنتاج التمور عالميًّا بنسبة 17% في العام 2020، كما حققت اكتفاءً ذاتيًّا في عدد من المنتجات الزراعية.
وعلى ما يبدو أن مُنجزات القطاع الزراعي السعودي على مدى السنوات الفائتة، كانت بمثابة قوة دفع واقعية ومُنطلق أساس لإقرار مجلس الوزراء السعودي في السادس عشر من مارس الماضي قانون "النظام الزراعي" الجديد؛ والذي يهدف إلى تنظيم القطاع، وضبط مشاريعه، وتنمية استثماراته المتنوعة المحلي منها والأجنبي، وتنظم شؤون القطاعات التابعة حيوانيًّا ومائيًّا، وإدارتها، وحمايتها، وتنميتها، واستدامتها، وضمان استدامة جهود تحقيق الأمن الغذائي، وتنظيم الأنشطة المتعلقة، من إنتاج واستيراد وتصدير...وغيرها.
كما أنَّ إقرار الرياض في ديسمبر من العام الماضي لبرنامج التنمية الريفية، إضافة لتدشين صندوق البرنامج المساند للإسهام في تمويل "التنمية الريفية"، والذي خَصَّـص 3 مليارات ريال (800 مليون دولار) تمويلاً مسانداً له، لدعم صغار المزارعين والمربين والصيادين ومربي الماشـية في ثمانية قطاعات واعدة، حتى العام 2025، يُمثل ضابطًا جديدًا للعمليات الاستثمارية والإنتاجية في القطاع، ومصدر جذب للاستثمارات الأجنبية من خارج المملكة للاستفادة من هذا الثراء في الفرص الواعدة.
صندق التنمية الزراعية
إنَّ خطة المملكة لهذا العام والهادفة لمضاعفة ميزانية صندوق التنمية الزراعية 3 أضعاف ما كانت عليه في العام 2019 (وصلت إلى 5.5 مليار ريال في 2021)، وزيادة مُخصَّصات الاستثمارات الأجنبية، لهي ترجمة عملية لأبعاد الرُّؤى المستقبلية الطامحة للتوسُّع في الاستثمارات بالزراعة المحلية، وكذلك المشاريع الزراعية في الخارج؛ تعزيزًا لكفاءة القطاع، وضمانًا لاستمرار سلاسل الإمداد ووفرة المعروض من المنتجات الزراعية والسلع الغذائية؛ حيث تم هذا العام تخصيص 2 مليار ريال سعودي كضمانات مصرفية لمستوردي المحاصيل (الأرز، وفول الصويا، والذرة، والسكر، مع إمكانية إضافة منتجات أخرى حسب حاجة السوق)، فضلا عن رصد 300 مليون ريال سعودي لمبادرة "رأس المال العامل"، كقروض تشغيلية مباشرة وفق اتفاقيات تمويل ميسرة.
إضافة إلى ذلك، فإنَّ انتهاج وزارة البيئة والمياه والزراعة في المملكة مبدأ الشراكة في علاقاتها مع الجهات والمؤسسات المختلفة؛ سواءً في القطاع العام أو القطاع الخاص أو حتى الاستثمارات الأجنبية؛ يحفز التنافسية الاستثمارية في القطاع الزراعي هناك، حيث وضعت الوزارة أطرًا مناسبة لتحفيز الاستثمـار في مجالات الأنشطة المرتبطة، وتبنت منهجية علمية وعملية في تخطيط وتنفيذ المشاريع الاقتصادية، ومواجهة التحديات، والتغلب على العوائق التنظيمية والتمويلية والاستثمارية؛ بانتهاج آليات وإستراتيجيات طويلة المدى لتوفير البيئة المناسبة والميسرة للاستثمار في القطاع الزراعي والقطاعات التابعة، وتوفير خدمات دعم تنمية المشاريع بما يحقق استدامتها، وطرح فرص استثمارية مجدية، وإعلانها للمستثمرين على المستويين المحلي والخارجي، مع طرح مناقصات لتنفيذ المشاريع الكبرى والإشراف عليها بشكل مباشر.
كل ذلك مدعومًا بأولويات وأهداف طموحة تتوافر عليها الإستراتيجية الوطنية للزراعة 2030، والتي تنطلق من كون الاستثمار الزراعي عاملًا جوهريًّا ورافدًا حيويًّا لخطط التنمية الشاملة والمستدامة في المملكة، بل ويحقق أهداف وتوجهات الإستراتيجية العامة للتنمية الوطنية بما يتفق و"رؤية 2030"؛ والتي تتطلع إلى تحقيق تنويع مستدام، وخلق فرص عمل للشباب، وتوطين الاستثمارات وتوفير الدعم المادي والبشري لمشاريع الاستثمار، وتعميق مستويات المشاركة المجتمعية مع القطاع الخاص، مع إتاحة فرص واعدة أمام المستثمرين المحليين والأجانب للمشاركة في تنفيذ الأولويات المستقبلية للمملكة.
وفي هذا السياق، يُمكن تسليط مزيد من الأضواء الكاشفة على 4 فرص استثمارية واعدة في القطاع الزراعي السعودي؛ يتصدرها "الاستثمار في السدود"، والذي يتماشى مع التوجُّه الجديد لوزارة البيئة والمياه والزراعة في المملكة التي تتطلع لمشاريع استثمارية مبتكرة كإنشاء متنزهات سياحية تطل على السدود، أو مطاعم ومقاهٍ ومدن ألعاب وترفيه، إضافة للتوسع في إنشاء محطات تحلية وتنقية المياه السطحية والجوفية، إلى جانب الاستثمار في القطاع الحيواني وتربية الماشية، وزراعة وإنتاج الخضراوات بالبيوت المحمية، وتربية الدواجن البياض...وغيرها.
... إنَّ فرص الاستثمارَ في القطاع الزراعي السعودي تتوافر على جُملة مُحفزات تعظِّم حجم النتائج المتوخاة منه على المدى البعيد؛ فوضوح الرؤية الاقتصادية والاستثمارية التي تغطي تفاصيل ومتطلبات المشاريع الاستثمارية في القطاع؛ سواءً عبر محاور ومستهدفات "المملكة 2030" أو "الإستراتيجية الوطنية للزراعة"، يضمن تحقيق مُعدلات جدوى اقتصادية مرتفعة، يُعزز من مردودها تكاملية الخطط والإستراتيجيات الجاذبة للاستثمار بما توفره من تسهيلات تدعم الاستثمار المحلي السعودي والأجنبي في المملكة.
قد يهمك ايضاً
وزراء خارجية مصر واليونان وقبرص يعدون القمة الثلاثية المقبلة في جزيرة كريت
الكرملين يعلن أن التحضيرات جارية لعقد القمة الثلاثية حول سورية مطلع سبتمبر ايلول
أرسل تعليقك