روما ـ مالك مهنا
في إعلان غير مسبوق في تاريخ الكنيسة الكاثوليكية، أكد البابا بنيديكتوس السادس عشر، أنه سيستقيل من مهامه اعتبارًا من نهاية العام الجاري، مشيرًا في بيان إلى أنه "بعد مراجعة ضميره توصل إلى قناعة بأنه لم يعد قادرًا بسبب تقدمه في السن على القيام بواجباته على أكمل وجه، فيما وصف المحللون السياسيون استقالته بمثابة النهاية لفترة ثماني سنوات عاصفة ومحزنة من البابوية، فقد جاء وهو يحمل صفات المفكر المحافظ القادر على مواجهة التحديات، إلا أن أغلب الرسائل التي سعى إلى توصيلها لم تصل إلى الأسماع والسبب في ذلك يرجع إلى سلسلة من الخلافات الجدلية التي كانت من صنعه، وإلى الاحتجاجات الغاضبة، ولاسيما في أوروبا، بسبب ارتكاب قساوسة كاثوليك انتهاكات جنسية مع أطفال.
وذكرت صحيفة "الغارديان البريطانية" أن راتزينجر أمضى ما يقرب من ربع قرن داخل الفاتيكان الأمر الذي جعل من المنطق أمام الكرادلة الذين اختاروه لمنصب البابا أن يفترضوا فيه الوعي الكامل بما يدور في الفاتيكان وحرصه على تحسين مسيرته، وعلى الرغم من نفوذه وكونه كان الملازم الأمين وموضع ثقة البابا جون بول الثاني، لكن البابا الألماني الجديد في واقع الأمر كان يكتنفه التناقض والمفارقات، ومن ناحية أخرى فقد كان على المستوى الفكري والذهني شخصية لا تعرف الرحمة ولا الشفقة ولا عجب في انجذابه للقب "كلب الرب الحارس". إلا أنه، مثل كثيرين غيره من العلماء، كان مترددًا ويفتقد إلى الشجاعة والحيوية والقوة اللازمة لإصلاح القساوسة الذين يقاومون التغيير".
ثم تطرقت الصحيفة البريطانية مسترسلة في مقال نشرته الإثنين مستعرضة تاريخه وفضائح رجال الدين في عهده وأوضحت "أن سنواته الثماني التي أمضاها زعيمًا للكاثوليك في العالم حفلت كلها تقريبًا بالفضائح . وقد كانت الفضائح موجودة من قبل تقلده للمنصب، في كل من الولايات المتحدة وأيرلندا، إلا أن العام 2010 شهد سلسلة من الفضائح الجنسية العلنية في عدد من البلدان الأوروبية ولاسيما في النمسا وبلجيكا وهولندا والنرويج وألمانيا .
بل إن البابا نفسه تأثر بواحدة من تلك الفضائح عندما كان رئيس أساقفة ميونيخ، حيث سمح بعودة أحد رجال الدين المعروف بميوله الجنسية نحو الأطفال للقيام بممارسة واجباته الكهنوتية والتواصل مع الأطفال.
لقد كان هذا الفيض من الفضائح بمثابة نكسة لبرنامج بينيدكت البابوي والهدف الذي وضعه لنفسه والذي انتخب من أجله المتمثل في إعادة إحياء التبشير في أوروبا المعروفة بقلب الكاثوليكية . وتشير دراسات مسحية إلى ان عدد المؤمنين الكاثوليك في أوروبا بات أقل مما كان عليه قبل انتخابه لمنصب البابا، ولعل السبب في ذلك يرجع في جانب كبير منه إلى غضب ويأس الجماهير الكاثوليكية بسبب فضائح الانتهاكات الجنسية التي تورط فيها القساوسة.
لقد سادت الموالين للكنسية حالة شديدة من السخرية والتهكم . يذكر انه وخلال عام 2001 قام البابا السابق جون بول الثاني بإحالة قضايا الانتهاكات الجنسية إلى المجمع الديني الذي كان يرأسه آنذاك راتزينجر الذي اكتفى بالإعراب عن أسفه وصدمته لما اطلع عليه من شهادات في تلك القضايا.
وأضافت الصحيفة البريطانية "يرى أنصاره أنه كان ينوي مثل سلفه في استخدام سلطاته لمنع ارتكاب القساوسة الكاثوليك للانتهاكات الجنسية مع الأطفال. وقد أشار إلى ذلك عام 2005 لحظة احتضار البابا جون بول عندما قال "إن الفحش والقذارة في الكنيسة".
وتؤكد الصحيفة "أن البابا كان يفتقد إلى القوة والحيوية الكافية واللازمة للتعامل مع ظاهرة الشذوذ الجنسي مع الأطفال في أوساط القساوسة على الرغم من الإجراءات المشددة الموضوعة في هذا السياق. فقد تردد الأساقفة في إبلاغ السلطات المدنية بتلك الانتهاكات الأمر الذي يكشف سبب عدم ظهور الأدلة على تلك الانتهاكات الجنسية قبل ذلك".
وأشارت الصحيفة إلى أن " البابا افتقد القوة اللازمة لتحقيق أهدافه، إذ لم يسع لإدخال إصلاحات للتدقيق في احتمالات تورط القساوسة في مثل هذا الانتهاكات قبل تعيينهم لأداء المهام الدينية. لقد كان البابا على قناعة بأن خطايا القساوسية ما هي إلا عن نقص في الورع والتقوى وليس بسبب عيوب في الإجراءات الداخلية في الكنسية والافتقاد إلى الضرب بقوة على أيدي هؤلاء".
وذكرت أن "طبيعة البابا الخجولة كانت تعني أنه تقلد منصب البابوية بقدرات اتصال محدودة داخل العشيرة الكاثوليكية وقد ظهر ذلك في تعييناته حيث كان يقع اختياره على من هم أقل خبرة، ويمكن القول بأنه فشل في إحكام قبضته على الفاتيكان وهو ما كلفه ثمنا غاليا، والسبب في ذلك التردد في استشارة الآخرين ولاسيما بشأن مدى تأثير كلماته وقراراته على العالم من خارج نطاق الفاتيكان".
وكانت المحصلة سلسلة من الحماقات في السنوات الأولى من عهده، ففي عام 2006 اثار غضب العالم الإسلامي عندما استخدم عبارات تسيىء إلى نبي الإسلام. كما أهان سكان أميركا اللاتينية عندما أبرأ الحضارة الغربية من استعمار قارتهم، كما أغضب اليهود كذلك من خلال أدائه طقوس دينية على نطاق واسع تسئ إليهم.
وفضلا عن ذلك فقد أثار جدلا عام 2009 عندما قال بان توزيع الواقي الذكري في أفريقيا لتخفيف مشكلة الإيدز قد ساهم في تفاقم المشكلة، الأمر الذي لقي استنكارا دوليا واسع النطاق على المستوى الحكومي ومن جانب المنظمات الدولية.
وما يبعث على السخرية والتهكم في هذا السياق أن نفس البابا قال في مقابلة عام 2010 أن استخدام ممارسي الدعارة للواقي الذكري لحماية الزبائن من مرض الإيدز يمكن أن يكون له ما يبرره من واقع المسؤولية الأخلاقية. وعلى الرغم من أن المسؤولين في الفاتيكان أكدوا على أن تلك التصريحات لا تعني أنه يوافق على الوسائل الصناعية لتحديد النسل، إلا أن تصريحات تثير علامات استفهام بشأن رفض كنيسته استخدام الواقي الذكري من أجل الوقاية من مرض الإيدز، وهي في المجمل مواقف تكشف بوضوح مدى التناقض الذي أحاط بالبابوية في عهده.
وكان رأس الكنيسة الكاثوليكية، الذي سيتخلى عن مهامه في الساعة 19:00 (20:00 بتوقيت غرينتش) في 28 شباط/ فبراير، أشار قبل عامين في كتاب مقابلات إلى "إمكان استقالته في حال شعر أنه لم يعد قادرًا على الاستمرار في منصبه".
امام هذا الحدث، أوضحت الكنيسة الكاثوليكية في مصر لـ "مصر اليوم" أن بنيديكتوس السادس عشر ليس اول بابا يقدم استقالته فقد سبقه خمسة باباوات قبل ذلك، اولهم كان البابا كليمون اﻷول، الذي قدم استقالته العام 97، ثم البابا بونتيان العام 230 والذي كان على خلاف مع أمبراطور روما، وقد نفاه الامبراطور نحو سردينيا خارج روما حتى تنحيه فى جزيرة تافوﻻرا، وفي العام 1045 قدم البابا بنيديكتوس التاسع استقالته، و في العام 1294 قدم البابا تشليستيوا الخامس استقالته أيضا من الكرسى الرسولى، ومن وحي استقالته كتب "دانتي اليجاري" كتابه الشهير "الكوميديا الإلهية"، و في العام 1415 قدم البابا جريجوار الثانى عشر استقالته.
وكان البابا البالغ من العمر 85 عامًا، قد تولى رئاسة الكنيسة الكاثوليكية في العام 2005 بعد وفاة سلفه يوحنا بولس الثاني، وكان اسمه آنذاك الكاردينال جوزيف راتزينغر، وهو عضو في كلية الكرادلة، وعمل أسقفا لمدينة ميونيخ قبل انتقاله إلى روما العام 1981.
ومنذ ذلك الحين، كان أحد أقرب مستشاري البابا الراحل يوحنا بولس الثاني، ومشرفا على الهيئة المنوطة بمراقبة نقاء العقيدة على مدى 20 عاما.
وقال المتحدث باسم الفاتيكان الأب فيديريكو لومباردي، إنه "حتى المساعدين المقربين من البابا نفسه لم يعرفوا ماذا كان يعتزم عمله، وقد أصابتهم الأنباء بـحالة من"البلبلة".
من جانبه أعرب رئيس الوزراء الإيطالي ماريو مونتي عن "حزنه لاستقالة البابا"، وقال إنه "مصدوم بشدة بسبب تلك الأنباء غير المتوقعة".
أما رئيس مركز أرام لدراسة الحضارات السامية في جامعة أكسفورد الأب شفيق أبو زيد، فأوضح "أن البابا يعاني من مرض القلب منذ فترة، وهذا ما يجعل من الصعب عليه أن يواصل مهامه رئيسًا للكنيسة الكاثوليكية."
وفي السياق نفسه، قال الأب جيورغ راتسينغر، شقيق البابا، إن أسباباً صحية وراء استقالة الحبر الأعظم، لافتا إلى ان سنه المتقدم وأسباباً صحية وراء الاستقالة،موضحا أن طبيبه الخاص نصحه بعدم القيام برحلات طويلة لازدياد الصعوبات التي يواجهها بسبب المشي، وبدأت تظهر عليه علامات التعب بسرعة.
من جانبه وصف المتحدث الرسمي باسم الحكومة الألمانية شتيفن زايبرت، الاستقالة بأنها "خبر مؤثر"، وأضاف أن "الحكومة تكن احتراما كبيرا للبابا، لما قام به من أعمال، ولما أسداه خلال سني حياته للكنيسة الكاثوليكية".
الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند اثنى من جانبه على البابا ووصف قراره بأنه "إنساني ولا بد من احترامه".
وفي نبذة عن حياته، ولد البابا وهو أكبر زعماء العالم الكاثوليكي سنا في التاريخ في ألمانيا العام 1927، وانضم إلى تنظيم شباب هتلر خلال الحرب العالمية الثانية، وجند في سلاح الدفاع الجوي، لكنه تركه بعد ذلك.
وتولى اللاهوتي المحافظ، صاحب وجهات النظر المتشددة في قضايا المثلية الجنسية، وتولي النساء لمراتب القساوسة في الكنيسة، منصبه في ظروف تعد أقسى ما واجهته الكنيسة الكاثوليكية عبر عقود، وكان أول ألماني يتربع على عرش الفاتيكان الذي كان الإيطاليون يشغلونه على مدى قرون طويلة. ويعتقد الخبراء أن الغالبية الايطالية في إدارة الفاتيكان قبلت البابا بنيديكتوس السادس عشر بنوع من البرودة، ما كان يجعله يواجه إجهادا نفسيا.
أرسل تعليقك