تونس ـ وكالات
"هل غادرنا السقيفة؟ الحنابلة الجدد في تونس المحروسة" كتاب مثير للجدل صدر مؤخرا في تونس للباحث مختار الخلفاوي يتناول فيه أصول الظاهرة السلفية وحقيقتها.
قليلة هي الكتب التي تستمدّ مادّتها من الأحداث المتلاحقة والمتسارعة، مثل تلك التي تشهدها تونس منذ سقوط نظام بن علي، وتكون قادرة على الصّمود أمام الزمن واكتساب أحقية أن تكون مرجعا ومصدرا تاريخيا نجده بعد أن يطوي الزمن تلك الأحداث يساعد على فهم طبيعتها ويضيء جوانبها التي ظلّت غائمة وغامضة.
وقد صدرت كتب كثيرة خلال العامين الماضيين جميعها تعكس ما عاشته تونس في الفترة التي أعقبت انهيار نظام بن علي وصعود الإسلاميين الى السلطة وظهور قوى سياسية جديدة في المشهد السياسي الحالي. غير أني أعتقد أن القليل منها سوف يظلّ حيّا في الذاكرة، وبالتالي قادرا على أن يعكس خفايا الفترة المذكورة وأطوارها وملابساتها.
وأظن أن كتاب الباحث مختار الخلفاوي الذي حمل عنوان "هل غادرنا السقيفة؟ الحنابلة الجدد في تونس المحروسة" "دار صامد للنشر والتوزيع2012" هو من ضمن الكتب التي لن يتمكن الزمن من الرّمي بها في عتمة النسيان. وشخصيّا قرأت الكتاب بمتعة كبيرة. فقد وجدت بين طيّاته ما أعانني على فهم العديد من القضايا وعلى إدراك ما خفي عني وسط تصادم الأحداث وتزاحمها وكثرتها وسرعتها واختلاطها حتى أنني أحيانا أجد نفسي ممزقا بينها وأحيانا لاهثا، راكضا وراءها من دون أن أظفر بما يشفي غليلي ويضيء ما خفي عنّي منها.
بالإضافة إلى هذا كله وجدت في لغة مختار الخلفاوي وفي أسلوبه ما زاد في متعتي في قراءة كتابه. فهو يتخيّر الكلمات بمهارة ولا يخلط بين المفاهيم مثلما هو حال العديد من الباحثين ويحرص على تبليغ أفكاره من دون لفّ أو دوران ومن دون تعمّد الغموض أو الحذلقة أو اللعب الأخرق بالكلمات.
في كتابه يتطرق مختار الخلفاوي إلى العديد من الأحداث والقضايا التي انشغل بها التونسيون نخبا وقيادات سياسية وشعبا خلال العامين الماضيين. غير أن القضية التي ركز عليها أكثر من غيرها هي قضية من سّماهم بـ"الحنابلة الجدد"، ويعني بهم السلفيين الذين ظهروا فجأة وتكاثرت أعدادهم بشكل مخيف في ظرف زمني قصير للغاية. وبالإضافة إلى ما تميّزوا به في طريقتهم في اللباس وفي شكل لحيّهم عمد هؤلاء في أكثر من مرة الى ترويع الناس في الشارع وإلى الاعتداء على المثقفين والفنانين.
كما رفعوا الأعلام السوداء في الجامعات وفي المدارس وتهجموا على الأساتذة وعلى النساء غير المحجبات وقاموا بتحطيم أضرحة مشاهير الأولياء واعتبروا الاحتفال بالمولد النبوي الشريف بدعة. وقاموا باستعراضات في القيروان بالخصوص حيث أظهروا "هياجا وحالات هستيريّة مستوحاة من سيناريوهات باكستانيّة – قندهاريّة".ولم يتردّد بعض الأئمة المحسوبين على التيّار السلفي في الدعوة إلى قتل وتكفير بعض قادة الأحزاب الذين يدعون إلى ضرورة فصل الدين عن الدولة.
لتفسير هذه الظاهرة التي لم يألفها التونسيون، يعود بنا مختار الخلفاوي إلى مراحل معيّنة من التاريخ الإسلامي ليكشف لنا أن لـ"الحنابلة الجدد" أجدادا وأسلافا. ففي "الكامل في التاريخ"، يروي ابن الأثير في الفقرات المخصصة للحوادث التي شهدتها بغداد سنة 323 هجرية أن أمر الحنابلة عظم وقويت شوكتهم فأخذوا يقتحمون دور الناس، قادتهم وعامّتهم، فإن وجدوا نبيذا أراقوه وإن وجدوا مغنيّة ضربوها وكسّروا الآلات الموسيقية.
كما أنهم أخذوا يتدخّلون في معاملات البيع والشراء بين الناس فيعترضون على هذا الأمر أو ذاك، وكانوا يعترضون على مشي الرجال مع النساء في الطريق، فإن هم رأوا ذلك أوقفوا الرجل والمرأة وتحرّوا بالسؤال عن العلاقة التي تربط بينهما، فإن أرضاهم الجواب كفّوا عنهما وأطلقوهما وإلاّ ضربوا الرجل وحملوه إلى الشرطة، فيشهدون عليه بالفاحشة!
معلّقا على الشعار الشهير الذي أطلقه المصري حسن البنّا، مؤسّس حركة "الإخوان المسلمين"، والذي لا يزال قائم الذّات إلى حدّ هذه الساعة، يكتب مختار الخلفاوي قائلا: "طيلة عقود من الزمن صدّعت رؤوسنا شعارات المتأسلمين بأن الإسلام هو الحل ورفعت راياتهم بأن الحلّ هناك يرقد في صفحة مّا من الكتاب والسنّة بفهم الجلّة من فقهاء الأمّة، وفي عالم عربي غارق في الشعور بالإثم وصل الإخوان إلى السلطة، فأصابهم داء النسيان. نسوا شعاراتهم ونكسوا راياتهم. ولم يعد الإسلام هو الحلّ".
وينتقد مختار الخلفاوي بشدة لجوء جماعة النهضة إلى الزعيم الوطني صالح بن يوسف، الذي اغتيل بمباركة من بورقيبة في صيف عام 1961، بهدف تزييف التاريخ والادعاء بأنهم يمثّلون ذروة الفكر الإصلاحي التونسي، مشيرا الى أن مرجعيّاتهم لم تكن في أيّ يوم من الأيام مرجعيّات تونسية، بل مرجعيّات مشرقية مثل حسن البنّا والسيد قطب والمودودي وغيرهم.
ويضيف مختار الخلفاوي قائلا: "إنه لا يعتقد أن النهضويين قد طوّروا أدبياتهم باتجاه المصالحة مع القوميّة العربية التي ما زالت لديهم من النظريّات الجاهليّة الوثنيّة باستثناء بعض الخطوات التكتيكية للتقرب من أفكار العروبة والإسلام ما تجلّت عند د.عصمت سيف الدولة، أو كما تجسدت في مؤتمرات الحوار القومي الإسلامي".
وموجّها سهامه للرئيس التونسي منصف المرزوقي يكتب مختار الخلفاوي قائلا: "كان الأمل معقودا على الدكتور المرزوقي ليكون حربا ضدّ الفساد وعونا على الانتقال من الاستبداد إلى الديمقراطية التي بشّرت بها تواليفه وضمانة لكي لا ينحرف ذوو الشوكة بفعل سكر السلطان. وها هي الأيام تخبرنا بأن الفساد يعيش ويريش، وأن القطط السمان مازالت سمانا، وأن تعهّدتها أحواض "النهضة" بالتطهير والتعميد".
وأمام هذه التحوّلات الخطيرة التي تشهدها تونس والتي قد تنسف المشروع الحداثي والإصلاحي الذي اختصّت به يلجأ مختار الخلفاوي إلى اليوناني ديوجين فيلسوف الكلبية الذي أمضى الشطر الأكبر من حياته في برميل رافضا المال والشهرة ومتحديا السلطة وأصحاب النفوذ مثل الإسكندر المقدوني، محاولا أن يستمدّ منه ما يمكن أن يساعده على إبقاء شعلة الأمل مضيئة في النفوس وفي القلوب، ويعينه على مواجهة الاستبداد الجديد الذي يتشكل أمام عينيه، ويقيه شرّ اللغة الخشبية الوقاحة المغلفة بالمواعظ الدينية وطاحونة التكفير والقتل الرمزي، والفعلي المزدهر في هذه الأيام التونسية القاتمة. وفي ذلك يكتب مختار الخلفاوي قائلا: "أجد من الوجيه أن يخرج من بيننا على هذا العهد، ديوجين عربي أو تونسي.
وهل نحن في غنى عن الكلبية في مواجهة القبح المستشري والعهر السياسي والانتهازية والنميمة والكذب والتزييف والخداع والأنانية والحسد والتملق والتسلق ورتق العذرية وركوب الموجة الصاعدة والنفاق وفقدان الذاكرة والسخافة والرداءة والانحطاط؟".
أرسل تعليقك