لندن - عمان اليوم
جائزة «الغارديان» لأفضل لاعب في العام هي جائزة تُمنح للاعب قام بعمل رائع، سواء من خلال التغلب على الصعوبات والتحديات أو مساعدة الآخرين، أو تقديم مثال رياضي يحتذى به، من خلال التصرف بأمانة استثنائية. يفكر النجم الإنجليزي الشاب ماركوس راشفورد في عام 2020 الاستثنائي، الذي جعله - بفضل أقواله وأفعاله - الخيار الوحيد للفوز بجائزة صحيفة «الغارديان» كأفضل لاعب كرة قدم لعام 2020. لقد تألق مهاجم مانشستر يونايتد ومنتخب إنجلترا داخل المستطيل الأخضر كالعادة؛ لكنه خارج الملعب أيضاً قام بعمل أفضل من أي شخص آخر، فيما يتعلق برعاية الأطفال الأكثر فقراً وضعفاً في المملكة المتحدة.
وتسأله صحيفة «الغارديان» عن تأثير والدته، ميل، عليه، ويجيب راشفورد في بضع جمل قصيرة يؤكد خلالها أنه مدين بكل شيء لها، قائلاً: «إنها كل شيء بالنسبة لي، فكل صفة إيجابية أتحلى بها قد حصلت عليها منها. وإذا كان بإمكاني وصفها بثلاث صفات، فسأقول إنها قوية، وتعمل على حماية الآخرين، ولا تستسلم للهزيمة أبداً». وقد تشكلت شخصية راشفورد بالحب والدعم اللذين قدمتهما والدته له ولإخوته الأربعة؛ حيث قامت بتربيتهم كأم عزباء في حي ويثينشو جنوب مدينة مانشستر. وكانت والدته تعمل لساعات طويلة في ثلاث وظائف مختلفة، وتضحي بكل شيء من أجل سعادة أبنائها. لكن راشفورد يقول إنه يتذكر نظرات عينيها وهي مرهقة وتضع الطعام لنا على الطاولة، كانت تعاني من القلق وشبه اليأس، لقد كان هذا أحد الأسباب وراء الحملة التي أطلقها لمساعدة المحتاجين.
عندما كان راشفورد صبياً، كان يعتمد على وجبات الإفطار التي تقدمها الأندية، وعلى الوجبات المدرسية المجانية والوجبات الخفيفة، بينما كانت بنوك الطعام ومطابخ الحساء تمثل جزءاً من نشأته أيضاً، وما زال النجم الإنجليزي الشاب يتذكر الرحلات التي كان يقوم بها إلى «نورثرن مور» لجمع وجبات العشاء في فترة أعياد الميلاد كل عام. وكانت والدته ميل تعمل على طهي الطعام عندما تعود من العمل في المساء، حتى يتمكن راشفورد من تناول وجبة في المنزل، على الأقل.
كان راشفورد يشعر بالقلق من نقص الغذاء خلال الإجازات المدرسية، وبالتالي فهو يعرف جيداً كيف يكون الشعور بالجوع، لذا عندما تفشى فيروس «كورونا»، كان كل تفكيره ينصب على كيفية تعامل العائلات التي تواجه ظروفاً مماثلة، في هذه الأوقات الصعبة. يقول راشفورد: «كنت أشعر بالقلق على الأطفال الذين يواجهون ظروفاً صعبة مثل التي واجهتها، في حال إغلاق المدارس كجزء من الإغلاق الوطني بسبب تفشي فيروس (كورونا). فأنا لم يكن لدي سوى القليل للغاية في حال توقف الوجبات المدرسية المجانية. فما الذي كان يمكنني أنا ووالدتي القيام به؟». ويضيف: «عندما تعرضت للإصابة في ظهري في شهر يناير (كانون الثاني) الماضي، قضيت بعض الوقت مع بعض العائلات خلال المراحل الأولى من فترة التعافي من خلال جمعية (فيرشير) الخيرية، وكان من الواضح أنهم يعتمدون على الوجبات المدرسية مثل اعتمادهم على بنوك الطعام، ولم يكن بإمكانهم الاعتماد على واحد من هذين الخيارين من دون الآخر؛ بل كانوا بحاجة إلى كليهما من أجل البقاء. أنا أعرف جيداً ما يعنيه هذا الشعور بالخوف، وأعرف كيف كانت والدتي تشعر بالقلق، ولا أريد أن ينتاب هذا الشعور أي طفل أو أب أو أم».
يذكر أن «فيرشير» هي مؤسسة خيرية تعمل على تجميع وتوزيع الطعام الفائض، وقد دخل راشفورد في شراكة معها للمساعدة في سد بعض العجز في الوجبات المجانية، عندما تم إغلاق المدارس بشكل مؤقت في نهاية شهر مارس (آذار). في البداية، كان الهدف هو جمع 100 ألف جنيه إسترليني، وهو المبلغ الذي سيوفر وجبات لـ400 ألف طفل. لكن راشفورد بدأ يشعر بالقلق بشأن ما سيحدث أيضاً خلال العطلة الصيفية. وقالت كيلي هوغارث، مساعدة راشفورد في وكالة المواهب الدولية «روك نيشن»: «لقد قرأ مقالاً في صحيفة (الغارديان) عن أن قسائم الوجبات المجانية على وشك الانتهاء». وقد ضغط راشفورد على رئيس الوزراء البريطاني، بوريس جونسون، وحكومته، من أجل القيام بشيء حيال ذلك.
ويرجع النجاح الذي حققه راشفورد إلى حد كبير إلى نشاطه على وسائل التواصل الاجتماعي؛ خصوصاً أن لديه 21.2 مليون متابع عبر «إنستغرام» و«فيسبوك» و«تويتر». لقد سعى إلى تسليط الضوء على عدم العدالة الاجتماعية، معتمداً في ذلك على تجاربه الشخصية التي لا يمكن التشكيك فيها؛ لكنه قام بذلك من دون أن يهاجم السياسيين. لقد كان يريد أن يعمل الكل بشكل جماعي حتى تكون الرسالة التي يسعى لإيصالها أكثر قوة وتأثيراً، بعيداً عن أي مشاحنات أو انتماءات قبلية أو تعصبات للأندية في عالم كرة القدم. إنه يفكر دائماً في جدوى وأهمية ما يقوم به، بغض النظر عن أي شيء آخر. ثم تأتي بعد ذلك عزيمة راشفورد وإصراره على تحقيق حلمه، ولكي ندرك قوة إرادته يجب أن نشير إلى أنه عندما كان في السادسة من عمره، عندما اكتشفه مسؤولو مانشستر يونايتد لأول مرة، أكد أنه لا يوجد شيء يمكن أن يمنعه من تحقيق حلمه باللعب مع الفريق الأول لهذا النادي العريق.
وأكد راشفورد أنه حاول إحداث تغيير فيما يتعلق بمعاناة الأطفال من الفقر قبل بضع سنوات فقط؛ لكن جهوده لم تحقق التأثير المتوقع؛ لأنه لم يكن يعرف كل التفاصيل المتعلقة بمثل هذا العمل. لذلك، عمل على فهم الأمور بشكل أوضح، وتواصل مع العائلات المعنية بشكل أكبر، وبدأ العمل مرة أخرى. ولم تتراجع الحملة التي بدأها راشفورد رغم عديد من التحديات التي واجهتها، والتي كان من بينها ما حدث في يونيو (حزيران) الماضي عندما رفضت الحكومة مناشدته لمواصلة دفع قسائم طعام بقيمة 15 جنيهاً إسترلينياً في الأسبوع لبعض من أفقر العائلات خلال العطلة الصيفية. وعاد راشفورد ليبعث برسالة مفتوحة لأعضاء مجلس النواب يحثهم فيها على إعادة النظر في الأمر، وهو ما حدث بالفعل في نهاية المطاف. وقد اتصل به رئيس الوزراء، بوريس جونسون، هاتفياً، ليطلعه على تفاصيل تقديم وجبات طعام أثناء الصيف بقيمة 120 مليون جنيه إسترليني لـ1.3 مليون تلميذ.
وفي تلك الليلة، تم تعليق لافتة في حي ويثينشو مكتوب عليها: «راشفورد 1، بوريس 0»، في إشارة إلى انتصار راشفورد على رئيس الوزراء في هذا الصدد. وسيكون هناك تحول ثانٍ في موقف الحكومة في نوفمبر (تشرين الثاني) القادم، بفضل الحجج المتقنة التي قدمها راشفورد، وتلقيه اتصالاً آخر من جونسون لشرح ما حدث. ويتعلق الأمر هذه المرة بتمديد نظام قسائم الوجبات المجانية لمزيد من الإجازات المدرسية، بعد أن رفضت الحكومة هذا الأمر في البداية، لتعود وتوافق عليه. وبالتالي، تفوق راشفورد على جونسون للمرة الثانية.
وقد نجح راشفورد في جمع أكثر من 20 مليون جنيه إسترليني لصالح هيئة «فيرشير» الخيرية. يقول راشفورد عن ذلك: «لا أعتقد أن أي شخص كان بإمكانه توقع كل هذا. لكنني أشعر أن كثيراً من الناس قد تعلموا كثيراً عن أنفسهم في عام 2020، وخصوصاً فيما يتعلق بقوة إرادتهم. لقد كان عاماً غريباً بالنسبة لنا جميعاً؛ لكننا تعلمنا منه أنه لا يمكننا أن نأخذ أي شيء على أنه من المسلَّمات. لقد فتحنا كثيراً من المحادثات، وكشفنا النقاب عن عدم المساواة الموجودة في المجتمع، وأظهرنا التعاطف مع الآخرين، وهذا أمر رائع». ويضيف: «قد يكون من المضحك أن نقول إن هناك كثيراً من الأمور الإيجابية التي يمكن أن يتعلمها الناس مما حدث في عام 2020، ومن الجيد أننا ما زلنا على قيد الحياة رغم هذا الوباء وتأثيره على الصحة بشكل عام، والصحة النفسية والذهنية بشكل خاص، وما صاحب ذلك من خسائر وفقدان للوظائف. ويجب على الجميع أن يفخر بما قام به؛ لأن الأمور لم تكن سهلة على الإطلاق».
وقال راشفورد إنه يحاول أن يُبقي كرة القدم بعيدة عن حملته لمساعدة الفقراء والمحتاجين؛ لكن كرة القدم ستظل دائماً كما هي، وجمهور كرة القدم أيضاً سيظل كما هو ولن يتغير، وسيظل هناك من يرى أن لاعبي كرة القدم يتعين عليهم التركيز فقط على ما يحدث داخل الملعب، وأن أي اهتمامات أخرى تعمل على تشتيت تركيزهم. ومع ذلك، يشيد النقاد والمحللون بما يقدمه راشفورد داخل المستطيل الأخضر، وبتأثيره الكبير على أداء مانشستر يونايتد. وأحرز راشفورد هدف الفوز القاتل على وولفرهامبتون واندررز في الدقيقة 90 من عمر المباراة يوم الثلاثاء الماضي، وهو ما كان يعني إنهاءه للعام الميلادي برصيد 20 هدفاً في 42 مباراة مع مانشستر يونايتد، وهو ما يعني أن راشفورد لم يفقد تركيزه بسبب الأعمال الخيرية التي يقوم بها.
عدة الأطفال الفقراء. وفي نوفمبر، أطلق نادياً للكتاب يهدف إلى منح الأطفال من خلفيات اجتماعية واقتصادية فقيرة الفرصة للقراءة من سن مبكرة. وقد بدأ راشفورد القراءة وهو في سن السابعة عشرة من عمره؛ لأن عائلته لم تكن قادرة على شراء الكتب له. يقول راشفورد: «هناك ما يقرب من 400 ألف طفل في المملكة المتحدة لم يشتروا كتاباً قط. وهؤلاء هم الأطفال أنفسهم الذين أقاتل من أجلهم يوماً بعد يوم، وأريد أن أساعدهم على الهروب من القلق والخوف من خلال القراءة. تركز كتبي على القبول والاعتراف بالآخر، وهو ما يسمح للأطفال بمعرفة أن كثيرين منا قد عانوا مما يعانون هم منه الآن، وأن هناك طريقة للتغلب على هذه الأمور السلبية. وفي النهاية، فإن كل ما أريده هو أن يحلم الأطفال؛ لأن الأحلام تكون في بعض الأحيان هي كل ما يملكه هؤلاء الأطفال. أنا أعمل على الانتهاء من كتابي الأول الآن، وسوف يصدر في مايو (أيار) القادم». ويتمتع راشفورد، البالغ من العمر 23 عاماً فقط، بنضج يفوق سنوات عمره بكثير.
واختتم نجم مانشستر يونايتد حديثه بتقديم نصيحة للأطفال الذين قد يرغبون في أن يصبحوا لاعبي كرة قدم أو يحلمون بتحقيق نجاح كبير في أي مجال، قائلاً: «استمر في المنافسة مع نفسك فقط؛ لأن رحلة كل شخص مختلفة عن رحلة الآخرين، ولا توجد طريقة واحدة صحيحة للتعامل مع كافة الأمور. تدرب بجد وثِق بنفسك. وكل ما أتمناه هو أن يبدأ جميع الأطفال حياتهم وهم يحصلون على فرص متساوية في المملكة المتحدة، وألا يبدأ طفل حياته متأخراً عن طفل آخر بمسافة 20 ياردة، وأن يكون أطفالنا مجهزين بالأدوات التي يحتاجونها لتحقيق النجاح في أي مجال يعملون فيه».
قد يهمك ايضاً :