مسقط - عمان اليوم
طُرحت العديد من التساؤلات على وزير الصحة العُماني وفريقه الفني في مواجهة جائحة كورونا “كوفيد19” في شهر أبريل الماضي كان حول موعد “ذروة الوباء”. لم يُطرح السؤال من الصحفيين فقط، الذين كانوا يلاحقونه، وطاقمه الطبي والفني، بعشرات الأسئلة كل يوم، بل كان الجميع يسأل عن هذه “الذروة”، التي رأوا في الوصول إليها نوعا من الخلاص من الحجر المنزلي والتباعد الاجتماعي ومن رهاب “الجائحة” التي أرعبت الصغير والكبير خاصة في الأسابيع الأولى، وتسببت في إغلاق كل سبل الحياة التي اعتادها الناس. وعزز ذلك السؤال تأكيد علماء الأوبئة والمختصين أن أي وباء لا تستطيل مدته، في العادة، أكثر من 12 أسبوعا، ثم يعود طبيعيا، ويمكن أن تسجل حالات بسيطة جدا بعد ذلك لا تشكل أي خطورة على النظام الصحي.
كان "كوفيد19" وباء مختلفا تماما. وكان هاجس الأنظمة الصحية في كل دول العالم، وبمساعدة الأنظمة السياسية، يتركز حول كيف تستطيع “تسطيح” منحنى الوباء، بحيث لا تصل “ذروته” سريعا فتنهك المؤسسات الصحية وتوصلها إلى مرحلة لا تستطيع فيها تقديم خدماتها لمرضى الوباء أو غيرهم من أصحاب الأمراض الأخرى، وهو أمر حدث في بعض الدول، رغم أن لديها أنظمة صحية متقدمة جدا، ولم تستطع مؤسساتها الصحية استيعاب الأعداد الهائلة التي كانت تحتاج إلى الرعاية الصحية.. فكانت تختار بين من تعطيه الخدمة الطبية ومن تمنعها عنه.
مطاردة الذروة
وكانت النماذج العددية للوباء التي أعدتها وزارة الصحة في السلطنة تشير إلى الأسبوع الثالث من شهر أبريل موعدا “للذروة” إلا أنها لم تتحقق في ذلك الأسبوع ولا في الأسبوع الذي يليه.. وكان الناس يترقبون بكثير من القلق والخوف والرجاء. وقبل نهاية شهر أبريل قال وكيل وزارة الصحة الدكتور سيف بن محمد الحوسني لجريدة عمان إن “ذروة” الوباء لا يمكن معرفتها إلا بعد تجاوزها، وإن جميع النماذج الوبائية التي أعدتها دول العالم لهذا الوباء لم تثبت دقتها، أبدا، في تحديد ذروة الوباء أو حتى في تحديد إحصائيات الإصابة به، وهدأت أسئلة الناس إلى حين.
أعطى أحد النماذج التي أعدتها وزارة الصحة للحالة الوبائية في السلطنة أرقاما بدت في الأسابيع الأولى من “الوباء المجهول” مخيفة جدا، واعتقد البعض أنها لم تخلو من مبالغة كبيرة حين عرفوا أننا يمكن أن نسجل، في السلطنة، 1500 حالة عدوى في اليوم الواحد. كان هذا الرقم مخيفا جدا، وغير قابل للتصديق، ولا أنّ 750 حالة ستحتاج إلى دخول المستشفيات في اليوم الواحد و184 حالة ستحتاج دخول غرف العناية المركزة كل يوم. إلا أن أكثر ما شكك فيه الناس، وأرعبهم، هو عدد الوفيات الذي سيصل إلى 64 حالة وفاة في يوم الذروة! وتوقع ذلك النموذج أن العدد التراكمي للإصابات في السلطنة سيصل إلى 22 ألف حالة عدوى. واعتقدتُ شخصيا مع الكثيرين ممن ليست لدينا دراية حقيقية بالأوبئة أن هذا الرقم مبالغ فيه كثيرا بالنظر إلى عدد الإصابات التي سُجِلت في الصين، على سبيل المثال، والتي يتجاوز عدد سكانها مليارا و800 مليون نسمة، ولم يكن الوباء قد استفحل في العالم كما سنرى لاحقا.
وكانت السلطنة تسجل، في ذلك الوقت، إصابات يومية تتراوح بين 40 إصابة و80 إصابة فقط، فما الذي يمكن أن يوصل هذا العدد إلى 22 ألفا في ثلاثة أشهر هي عمر الوباء!
لحظة الخلاص
وفي يوم 16 مايو وبعد مضي أسبوعين على موعد “الذروة” المنتظرة، سجلت السلطنة رقما قياسيا في تلك المرحلة، “404” إصابات في يوم واحد. عاد الناس وتذكروا الذروة مرة أخرى واعتقدوا أننا وصلناها فعلا وأن لحظة الخلاص قد حانت. خاصة أن وزير الصحة الدكتور أحمد بن محمد السعيدي قال في أحد المؤتمرات الصحفية إن الإجراءات الاحترازية التي اتخذتها السلطنة ساهمت في تقليص توقعات النماذج الإحصائية بنسبة 60%، وكتبت جريدة الوطن عنوانا ضخما في ذلك اليوم على صدر صفحتها الأولى تصف فيه المشهد بـ “السبت المخيف”.
وفي اليوم التالي تراجع عدد الإصابات فعلا إلى ما دون الأربعمائة إصابة. ويبدو أن الناس صدقوا أن لحظة الخلاص قد حانت في ذلك اليوم، فتراخت همم صمودهم في المنازل. وتصادف الأمر مع الأيام الأخيرة من شهر رمضان، وشهدت الأسواق حراكا لا يتناسق والتباعد الاجتماعي أو الحجر المنزلي الذي فرضته الدولة، وفي الحقيقة الذي فرض على العالم أجمع تقريبا.
كانت الأيام الأخيرة من شهر رمضان والتي استعد الناس فيها للعيد مرحلة فاصلة في انتشار الوباء في السلطنة وفي تجاوزه للأرقام “البسيطة” في ذلك الوقت كما نراها بمنظور أرقام شهر يوليو.
المنحنى الوبائي في السلطنة خلال شهر يوليو
شددت اللجنة العليا الإجراءات الاحترازية وفرضت لبس الكمامات في كل مكان ومنعت أي تجمعات في العيد وبذلت وزارة الصحة جهدا كبيرا لزيادة عدد الفحوصات اليومية، لكن كان قطار “أرقام” الإصابات قد انطلق سريعا وتجاوزت بعض أرقامه ما أشارت له النماذج الإحصائية في بداية الجائحة، وصار الرقم “1500” الذي اعتقد الناس إنه مجرد مزحة “إحصائية” رقما عاديا تقريبا. نسي الناس “الذروة” وفكرة الخلاص من الوباء، ودخلوا في سياق حديث آخر يختلف جوهره عن الحديث السابق وهو “التعايش” مع الوباء. وثمة فرق كبير جدا بين الخلاص والتعايش.
وبدأ يستقر في أذهان الناس أن هذا الوباء جاء ليبقى ولا مجال إلا أن نعرف كيف نتعايش معه. ولكن التعايش مع وباء مثل وباء كورونا يستوجب تغيير كل تفاصيل الحياة اليومية وتغيير العادات والتقاليد، باختصار نمط حياتي جديد بالكامل، وذلك من شأنه أن ينشئ نظاما عالميا جديدا مختلفا تماما عن نظامنا العالمي السائد قبل الوباء.. مختلفا بأنظمته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والثقافية.
خروج عن السيطرة!
وكان شهر يوليو أكثر الشهور خطورة في مسيرة الوباء في السلطنة، اعتقد الجميع أن الأمر قد خرج عن السيطرة، كما حدث في الكثير من دول العالم، وبينها دول متقدمة. بدأ الشهر في يومه الأول بالإعلان عن 1124 حالة عدوى جديدة أغلبها لعمانيين احتاجت 52 حالة منها التنويم في المستشفى. في ذلك اليوم كانت ترقد جراء الوباء 120 حالة في العناية المركزة، وقالت وزارة الصحة يومها إن هذا أكبر رقم يرقد في العناية المركزة جراء مرض واحد في تاريخ السلطنة!
ارتفع رقم حالات العدوى في اليوم التالي وواصل ارتفاعه في الأيام التالية الأخرى مع تراجعات بسيطة جدا في بعض الأيام، وفي يوم 9 مايو تجاوزت حالات العدوى المسجلة في يوم واحد الرقم 1500 الذي اعتقد سابقا أنه رقم “الذروة”. وكانت حالات الوفاة تزداد يوما بعد يوم لكنها بقيت عند مستوى واحد تقريبا مقارنة بعدد الإصابات اليومية.
وحمل يوم 10 يوليو مفاجأة أخرى حين أعلن فيه عن تسجيل 1889 حالة عدوى.. كان الرقم كبيرا جدا بالعودة إلى النماذج الإحصائية وبالعودة إلى التوقعات. وفي هذا اليوم بالتحديد كنا قد تجاوزنا بمرة ونصف تقريبا عدد الحالات التراكمي المتوقع وهو 22 ألف حالة حيث بلغ العدد التراكمي للحالات في ذلك اليوم “53614” حالة مشخصة مخبريا. ووصل عدد الذين احتاجوا في ذلك اليوم إلى التنويم في المستشفيات 74 حالة، فيما بلغ عدد المنومين في غرف العناية الحرجة 130 حالة!
يوم فارق
منحنى الحالات الحرجة خلال شهر يوليو
لكن يوم 13 يوليو كان هو اليوم الفارق في مسيرة الوباء في السلطنة حيث سجلت في ذلك اليوم 2164 حالة عدوى جديدة بالفيروس التاجي بينها 1572 حالة لعمانيين. وسجل ذلك اليوم حالتي وفاة و67 حالة احتاجت دخول المستشفى و146 للعناية المركزة. سيتبين بعد مرور حوالي 20 يوما أن هذا اليوم هو يوم “الذروة” الذي انتظره الناس كثيرا وسألوا عن موعده. جاء بعد قرابة 140 يوما على اكتشاف أول حالة مصابة في السلطنة وبعد قرابة 120 يوما على اكتشاف أول حالة عدوى مجتمعية.
وإذا كانت الذروة قد جاءت بأكبر مما توقعت النماذج الإحصائية للوباء فإن قدرة الله وجهود اللجنة العليا ووزارة الصحة قد قلصت أيضا المعطيات الأخطر في المشهد.. فلم تحتج 750 حالة دخول المستشفى في اليوم الواحد بل إننا حتى لم نصل إلى 90 حالة في اليوم الواحد، ولم تحتج 184 حالة دخول غرف العناية المركزة في اليوم الواحد والأهم من ذلك أن أعلى عدد وفيات في يوم واحد سجل حتى الآن كان 14 وفاة فيما كانت التوقعات الإحصائية تشير إلى 64 حالة وفاة في يوم الذروة. وإذا اعتقدنا أن النماذج الإحصائية التي أعدتها وزارة الصحة كانت مدخلاتها من المعلومات عن العمانيين فقط فإن رقم الذروة 1500 كان دقيقا؛ ففي يوم الذروة سجلت الإحصائيات إصابة 1572 عمانيا بالعدوى.
نظام صحي متين
ورغم أن الوباء ما زال مستمرا وينتشر إلا أن الأخطر قد مرّ، في الموجة الأولى على الأقل، إذا ما اعتقدنا أن هناك موجة ثانية قادمة من الوباء كما يؤكد علماء الأوبئة، ويمكن لأحكام، غير متعجلة كثيرا، أن تقال في حق النظام الصحي في السلطنة والذي أبلى بلاء حسنا واجتاز اختبارا مهما جدا بنجاح رغم محدودية الإمكانيات المالية ورغم الصراع الدولي الكبير على الأجهزة والأدوات التي احتاجتها المؤسسات الصحية على مستوى العالم، وهذا النجاح يحتاج إلى دعم حقيقي وإلى البناء عليه عبر تعزيز قدراته البشرية والفنية وتطوير بنيته الأساسية ليستطيع التعامل مع المرحلة القادمة.
وقدمت الوزارة جميع خدماتها بشكل مجاني رغم التكلفة الباهظة جدا، ولم تخاير لمن تقدم خدماتها الصحية. وجعلت الجانب الإنساني والحاجة الأكبر للعلاج هي المعيار ولذلك أعطيت الخدمات الصحية جراء الوباء حتى للمقيمين على أرض السلطنة بشكل غير قانوني.
تعاف أم تعايش؟!
الوباء ما زال ينتشر ولم تستطع أي دولة في العالم، تقريبا، إنهاءه تماما، لكن الحياة لا بد أن تستمر، وعجلة الاقتصاد لا بد أن تعود مرة أخرى حتى تعود أرزاق الناس، ويخرج الجميع من رُهاب الوباء. ولم تعد الأرقام اليومية لحالات العدوى تعني الكثير في ظل أن 90% منها بدون أعراض أو بأعراض خفيفة جدا لا تستدعي أي تدخل دوائي حتى. واعتمدت وزارة الصحة مؤشرا جديدا في تقييمها للحالة الوبائية في السلطنة وهو مؤشر عدد الحالات التي تحتاج إلى التنويم في المؤسسات الصحية وما يحتاج منها لدخول غرف العناية المركزة. وهذا من شأنه أن يخفف العبء المالي والبشري على المختبرات التي تعمل ليل نهار من أجل استخلاص النتائج.
حتى لا تعود الذروة
ولكن حتى لا يعود الناس انتظار “الذروة” مرة أخرى نحتاج إلى استيعاب التجربة التي مررنا بها خلال الأشهر الماضية، وتحمل المسؤولية الاجتماعية والوطنية للحفاظ على سلامة المجتمع وعدم العودة إلى مراحل التفشي الكبيرة التي شهدناها في شهر يوليو الماضي، لأن ذلك من شأنه أن يعيد فرض الكثير من القيود التي قد تحد من الحريات الشخصية في التنقل من مكان إلى آخر وتقلص النشاط الاقتصادي الذي سينعكس سلبا على الفرد وعلى إمكانيات الدولة في وقت يتطلع فيه الجميع إلى رفع جميع القيود وعودة الحياة إلى طبيعتها وفق معطيات المرحلة ومتطلبات استراتيجية التعايش مع الوباء. وفي ظل الحديث عن موجة ثانية منتظرة عالميا للوباء. فاتباع الإجراءات الوقائية والاحترازية أفضل ألف مرة من انتظار “ذروة” لا تأتي إلا بعد إنهاك المجتمع ومؤسساته.
قد يهمك أيضا: