حاج على ظهر جمل في بداية الحكم السعودي للدولة الثالثة

قبل قرون كان الحج والوصول إلى الأماكن المقدسة هما هاجس المسلمين من كل أقطار المعمورة، لكن تحقيق هذا الركن الخامس من أركان الإسلام محفوف بالمتاعب تارة وبالمخاطر تارة أخرى، إضافة إلى ضيق ذات اليد، لكن العقبة الوحيدة التي كانت تواجه الحجاج هي فقدانهم الأمن داخل الجزيرة العربية عند دخولهم إليها من المنافذ المختلفة، حيث يتعرضون للسلب والنهب، باعتبار أن الموسم السنوي خلق نوعاً من الاستثمار الموسمي لزيادة الدخل من أفراد ودول وقبائل عبر السلب والنهب، أو عبر تأمين وصولهم إلى المشاعر مقابل مبلغ مالي أو ما يعرف بالإتاوات. لقد تشكلت عصابات منظمة من أفراد تستوقف الحجاج وتسلب كل ما لديهم من مؤن أو دواء ثم تتركهم في الفلاة هائمين، بعضهم يهلك، وبعضهم يواصل سيره راجلاً متهالكاً، حتى وصوله إلى مكة، والبعض يتم قتلهم من قبل هذه العصابات عند مقاومتهم لهم.

في هذا السياق، ترددت حكايات شعبية عن هذه الأجواء والمشاهد لا يعوزها الصدق، منها أن أي حاج ينوي أداء هذا الركن قبل عقود يكتب وصيته لقناعته بأنه سيموت حتماً، ويتم وداعه من قبل ذويه، كما يحكى أن إحدى الأمهات في فترات ماضية وهي تلاعب وليدها الذكر مرددة عبارة: متى تكبر وتسرق الحجاج؟! لقد كان ذلك هدفاً ومطلباً عند بعض السكان للحصول على المال والعتاد والمؤن في عصر غياب الأمن والتشرذم والفاقة والفقر، في حين أن كثيراً من القبائل والبلدان تخصص من رجالها أفراداً لتأمين وصول الحجاج إلى المشاعر مقابل إتاوات يتفق عليها الطرفان.

المؤرخ والإعلامي أمين سعيد، رصد قبل نحو 100 عام أغلب أحداث الحج وبداية حكم الملك عبد العزيز في مجلته «الشرق الأدنى»، التي أصدرها في القاهرة عام 1927، الموافق 1346هـ، حيث احتلت أخبار الحجاز ونجد وملحقاتهما مكانة الصدارة فيها، وأبرز المؤرخ السوري عبد الكريم إبراهيم السمك، المقيم في السعودية رصداً لكل ما احتوته «الشرق الأدنى» والقضايا التي تناولتها في سياسة البناء التي انتهجها الملك عبد العزيز، خاصة فيما يخص الحجاج، وذلك بتوفير الأمن للحاج من ساعة وصوله حتى سفره إلى بلده، وسجلت المجلة أن الحاج لمس الفارق بين الحاضر والماضي.

يمكن الجزم أن تعاقب حكام الدولة السعودية بمراحلها الثلاث قد حقق الأمن داخل الجزيرة العربية، لكن الملك عبد العزيز مؤسس الدولة الثالثة، بالإضافة إلى تحقيقه الأمن بعد تشكيل وحدة إقليمية بين الحجاز ونجد، أدخل تحسينات في الحرم المكي بإيصال الكهرباء إليه لأول مرة، وتركيب مكبرات الصوت، وتنظيم عمليات تنقل الحجاج، وتأمين وصولهم إلى المشاعر بيسر وسهولة، ثم تابع أبناؤه الملوك: سعود، وفيصل، وخالد، وفهد، وعبد الله، الجهود ذاتها مسجلين أكبر عمليات لتوسعة الحرم في التاريخ.

وذكرت «الشرق الأدنى» أن الملك عبد العزيز وجه الدعوة لعلماء المسلمين في العالم لحضور أول حج بعد وحدة الحجاز بنجد. ولما وقعت عليه عيون هؤلاء العلماء من نهضة الملك بالحرمين الشريفين، وراحة حجاج بيت الله وزوار الحرمين وطيب الرعاية، ما كان منهم إلا مباركة الملك في حكمه للحجاز وسدانته للحرمين الشريفين. ومع هذه المباركة من العلماء المسلمين للملك، ازداد عدد الحجيج في الأعوام التالية، بعدما تخطت سمعة نجاحات الملك عبد العزيز في إدارة شؤون الحرمين وتنظيم أموره، الحدود لتصل إلى عموم المسلمين في العالم.

ولم تسجل في التاريخ المكتوب الموثق أعداد الحجيج في العقود الماضية، لكن تم في عهد الملك عبد العزيز تسجيل أول إحصائية عن الحجاج بلغ عددهم 250 ألف حاج، ووصف هذا العدد بأنه الأكبر في تاريخ الحج منذ قرون.

وفي عهد القيادة السعودية الحالية وصل الاهتمام بالحرمين الشريفين في عهد الملك سلمان وبجهود ولي عهده إلى ذروته بإقرار تنظيمات بزيادة أعداد المعتمرين طوال العام، حيث لامس عدد المعتمرين طوال أيام رمضان الماضي حوالي 30 مليوناً، في حين خضع رقم الحجاج إلى النسب المقررة والمحددة لكل دولة من دول العالم، ووفرت الحكومة السعودية كل التسهيلات منذ مغادرة الحجاج بلدانهم وحتى وصولهم للمشاعر، لدرجة أن بعض الحجيج يحرص على المجيء إلى مكة قبل الحج بأشهر ليتمكن من الاستفادة من الخدمات الصحية وإجراء عمليات في القلب والعظام والعيون، ثم يكمل حجه ليعود إلى بلاده سليماً معافى، كما تحرص النساء الحوامل على المجيء قبل الحج بأشهر لتضع مولودها هناك استفادة من الخدمات الموفرة للحجيج.

وشكلت وحدة إقليمي الحجاز ونجد حدثاً تاريخياً لافتاً على المستويين الإقليمي والدولي، إذ عُدّ هذا الحدث أهم فترات بناء الدولة السعودية الحديثة. فقد ساهم مشروع وحدة الحجاز بنجد من خلال «مملكة الحجاز ونجد وملحقاتها»، في بناء أرضية الدولة بوحدتها الكاملة، والانفتاح على العالم الخارجي، والإسراع في اعتراف الدول، خصوصاً الغربية، بدولة الملك عبد العزيز، والبدء في بناء العلاقات الدبلوماسية وتبادل السفراء والقناصل مع الدول التي اعترفت بها، إضافة إلى إقرار الأنظمة الداخلية والخارجية وبناء الدولة الحديثة... وفوق ذلك كله نشر الأمن والأمان في ربوع المملكة، وخدمة الحجاج وتأمين الخدمات التي يحتاجون إليها في ظل إمكانيات متواضعة، وحمايتهم من النوازل التي كانت تلازمهم في الفترات السابقة لقيام هذه المملكة. كل هذا حدث في ظروف إقليمية ودولية بالغة الصعوبة، حيث كانت مشاريع كل من فرنسا وبريطانيا الاستعمارية مستمرة لصناعة حدود الدول العربية وطمس معالم وحدتها، وفرض الهيمنة عليها وفق مصالحها، ورسم خريطة جديدة للمنطقة.

كانت طرق الحج المختلفة طويلة ومتشعبة وغير آمنة؛ لذلك كانت الرحلة إلى مكة المكرمة مجازفة غير مأمونة العواقب، وكانت مشاهد وداع الحجاج لذويهم تحمل في داخلها ملامح فقدان الأمل في نجاح هذه الرحلة، ولا سيما أنها رحلة تمتد لعدة أشهر عبر طرق وعرة المسالك محفوفة بمثل هذه المخاطر، إلا أنه في عهد الدولة السعودية تبدل الحال بأحسن حال، وأصبحت فكرة الحج أمراً ميسراً، وعمّ الأمن والأمان بلاد الحرمين، وتطورت وسائل النقل البدائية عاماً بعد عام، وصولاً إلى الوقت الحالي، حيث أصبح الطيران الوسيلة الأسرع التي تنقل الحجاج من أقاصي الدنيا إلى مكة المكرمة في غضون سويعات، أما الطريق البحرية فأصبحت البواخر المعاصرة المجهزة بأحدث وسائل الراحة تمخر عباب المحيطات والبحار ناقلة حجاجها إلى ميناء جدة الإسلامي بأعداد كبيرة دون عناء أو نصب.

أما الطرق البرية فأصبحت الحافلات المكيفة والمزودة بالخدمات هي الوسيلة الحديثة لنقل الحجاج عبر طرق سريعة مرصوفة ومحطات للاستراحات والتزود بالوقود والمواد الغذائية.

ويتكامل قطار المشاعر المقدسة مع بقية خدمات منظومة النقل والخدمات اللوجيستية التي تقدمها السعودية لضيوف البيت الحرام، عبر منظومة خدمية متكاملة تجسّد اهتمام المملكة بتسهيل حركة تدفق الحجاج وتفويجهم بكل يسر وسهولة وفق أعلى معايير الجودة والتنقل الآمن، ويهدف إلى التخفيف من الازدحام المروري، وسهولة التنقل بطريقة آمنة وسريعة.

وجاء قطار الحرمين السريع الذي دشنه خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز استكمالاً لهذه الجهود في خدمة ضيوف الرحمن والتيسير عليهم، وترجمة لما قاله: «إنّنـــا فـــي المملكـــة العربيـــة السعودية وقـــد شـــرفنا الله بخدمـــة الحرمين الشـــريفين وقاصديهمـــا نذرنـــا أنفســـنا وإمكاناتنـــا، ومـــا أوتينـــا مـــن جهـــد قيـــادة وحكومة وشـــعباً لراحـــة ضيوف الرحمن، والســـهر علـــى أمنهم وســـلامتهم».

شهدت منظومة الحج والعمرة نجاحات كبرى عاماً تلو آخر، ضمن تشاركية فاعلة بين جميع الجهات الأمنية والصحية واللوجيستية، كأحد أهم الإنجازات التي تفخر الدولة السعودية بتحقيقها، وذلك بما سخرته القيادة من إمكانيات مادية وبشرية لخدمة ضيوف الرحمن، وإتاحة الفرصة لأكبر عدد من المسلمين للقدوم لأداء فريضة الحج ومناسك العمرة والزيارة، ولهذا الهدف دشّن خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز برنامج خدمة ضيوف الرحمن كأحد برامج تحقيق «رؤية السعودية 2030»، بهدف رفع مستوى الخدمات المقدمة لهم، وإثراء تجربتهم الدينية والثقافية.

وتطورت منظومة الحج والعمرة خلال الأعوام القليلة الماضية تطورات عدة ومهمة؛ نظراً لما يُمثله قطاع الحج والعمرة من أولوية قصوى، مما ساعد في إطلاق العديد من المبادرات لتنظيم القطاع والارتقاء بجودة الخدمات فيه، مثل إتاحة التأشيرات الإلكترونية للحجاج والمعتمرين من جميع الدول، وتمديد فترة موسم العمرة، وإطلاق مشروع حافلات مكة وتطوير المواقع التاريخية الإسلامية، وتسهيل قدوم المعتمرين من خارج المملكة عبر عدد من التأشيرات، مثل: التأشيرة السياحية عند القدوم إلى منافذ المملكة، والتأشيرة السياحية الإلكترونية، وتأشيرات الزيارة، وغيرها من الأنواع، إضافة إلى مبادرات وزارة الحج والعمرة الإلكترونية، مثل تطبيق «اعتمرنا»، و«بطاقات الحج الذكية»، و«مبادرة حج بلا حقيبة»، وكذلك «مبادرة طريق مكة» بالشراكة مع عدة جهات لتسهيل إجراءات دخول ضيوف الرحمن عبر المنافذ دون انتظار، وغيرها من المبادرات والخدمات الهادفة إلى خدمة الحجاج، وتأديتهم الفريضة بكل يسر واطمئنان في أجواء إيمانية.

ورغبة من المملكة في إتاحة أداء فريضة حج هذا العام 1444هـ لأكبر عدد ممكن من المسلمين، أعلن مجلس الوزراء في جلسته التي عقدها برئاسة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز، بداية هذا العام عن عودة أعداد الحجاج في موسم هذا العام (2023) إلى ما كانت عليه قبل جائحة كورونا.

وبحسب بيانات الهيئة العامة للإحصاء، فقد بلغ إجمالي عدد الحجاج منذ بدأت الهيئة عملية الإحصاء في عام 1390هـ تحت مسمى «مصلحة الإحصاءات العامة والمعلومات»، حتى العام الماضي 1443هـ، أكثر من 99 مليون حاج، ونصت «رؤية السعودية 2030» في أحد أهدافها على استقبال أكثر من 30 مليون معتمر في عام 2030.

تعتبر مبادرة طريق مكة من أهم المبادرات التي أطلقتها وزارة الداخلية السعودية، والتي تأتي ضمن برنامج خدمة ضيوف الرحمن، أحد برامج «رؤية السعودية 2030»، التي أطلقت في عام 2017، وتهدف إلى تقديم خدمات ذات جودة عالية للحجاج المستفيدين من المبادرة، من خلال إنهاء إجراءاتهم من بلدانهم، بدءاً من إصدار التأشيرة إلكترونياً وأخذ الخصائص الحيوية، ومروراً بإنهاء إجراءات الجوازات في مطار بلد المغادرة بعد التحقق من توافر الاشتراطات الصحية، إضافة إلى ترميز وفرز الأمتعة وفق ترتيبات النقل والسكن في المملكة، وعند وصولهم ينتقلون مباشرة إلى حافلات لإيصالهم إلى مقار إقامتهم في مكة المكرمة والمدينة المنورة، بمسارات مخصصة، في حين تتولى الجهات الخدمية إيصال أمتعتهم إلى مساكنهم، واختتمت المبادرة هذا العام أعمالها في 7 دول هي المغرب، وإندونيسيا، وماليزيا، وباكستان، وبنغلاديش، ولأول مرة في جمهوريتي تركيا وكوت ديفوار، وذلك بعد وصول جميع المستفيدين من المبادرة إلى المملكة، لأداء حج هذا العام، والتي خدمت 242.272 حاجاً، وبلغ عدد الرحلات في صالات المبادرة، إلى مطاري الملك عبد العزيز الدولي بجدة والأمير محمد بن عبد العزيز الدولي بالمدينة المنورة، 667 رحلة.

قد يهمك أيضــــــــــــــــًا :

الوفد الطبي ببعثة الحج العُمانية ينهي كافة استعداداته لتقديم الخدمات الطبية للحجاج

رئيس بعثة الحج العُمانية يلتقي بوزير الأوقاف والشؤون الدينية الفلسطيني