بغداد – نجلاء الطائي
رحيل قدّيس الفن العراقي مؤيد نعمة، نكبة تضاعفت بفعل الطابع المباغت ،كما ان غيابه خسارة عميقة أيضا للحركة الابداعية العراقية والعربية الناهضة من رماد القمع والسطحية والفجاجة كلها باتجاه الحرية والسمو والمستقبل. فمؤيد نعمة في هذا الميدان، من خلال اعمال جريئة وطليعية كثيرة، بدا رائدًا مبادرًا وأميرا كريما بلا ادنى جدال.
عملَ طويلاً في مجال الرسم، أو ما يُسمى الكتابة باللون، والحديث من خلال خطوط، فأبدع في ما خطته يداه، وعبّر من خلال رسوماته عن هموم الكثير من ابناء مدينته، وترك خلفه الكثير من الرسوم الساخرة التي عُرفت بفن الكاريكاتير، التي خلدته من بعد رحيله، وقد تكون هذه الرسوم هي التي جعلتنا نستذكره اليوم بعد مرور 12 عاماً على رحيله، الفنان مؤيد نعمة كان واحداً من النجوم التي بكتها الثقافة والفنون العراقية لرحيله المُبكر، لنستذكره في بيت المدى في شارع المتنبي بحضور فنانين أحبوه وآخرين تعلموا وارتشفوا من مدرسته، وآخرين واكبوه في حياته...
جاء نعمة مع جيل من الرسامين المُتألقين أمثال بسام فرج، وعلي المندلاوي، و عبد الرحيم ياسر، وآخرين، عملوا في المؤسسات الثقافية وأخلصوا لمهنتهم وكانوا بمثابة القديسين الذين أداروا ظهورهم للعالم المادي وطوروا تجاربهم الفنية بعيداً عن المنغصات التي تعتري الوسط الفني والتجربة، هكذا وصفه الناقد التشكيلي جواد الزيدي، فهو "ليس فناناً وإنما رمز ثقافي يستحق الاحتفاء، انحدر من الجيل الذي أخلص لموضوعات الناس وهموم البسطاء."
لقد أُهمل نعمة من قبل الطبقات السياسية، وحاول أن يحرّض على الواقع ولكن بطريقة جمالية، حيث أشار الزيدي إلى "أن الراحل غادر جمالية الشكل حين تخرج من الفنون التشكيلية فرع الخزف، وكانت بداياته توصف بالوظائفية، خرج من وظائفية الخزف الى جمالية المعنى والتعبير الذي اجترحه لنفسه، وأصبح واحداً من الجيل المضيء، وأخلص لقضية الوطن وهموم الناس وهموم الشعب."
كلّ منا يحب مؤيد نعمة من زاويته، بعضنا يحبه لأنه شيوعي، أو لأنه دمث الاخلاق، أو لأنه صديق مخلص ونقي، ولكن بعد مرور هذه الفترة يجب أن نتحدث عنه بتجرد، هكذا ارتأى الفنان عبد الرحيم ياسر ليتحدث عن المحتفى به قائلاً " لماذا نكرر الحديث عن مؤيد نعمة؟ في الفترة التي ظهر بها مؤيد نعمة كانت هنالك مجموعة تأثيرات على أعماله الكاريكاتيرية، التي خرجت عن النطاق السابق والمعتاد الذي ظهر به غازي البغدادي."
لظهور مجلة "مجلتي" ومجلة "المزمار" وتمرين مؤيد فيها كما هو الحال في جميع الاجيال اللاحقة والتي تمرنت في هاتين المجلتين من الرسامين الممتازين كان سبب تألقهم يعود لهذه المؤسسة التي نشأت عام 1969، ويذكر ياسر أن" في ذلك الوقت كان هنالك كم من الرسامين ، رسامين بالفطرة وليس عن دراسة ، ومؤيد نعمة كان موهوباً فطرةً اضافة الى التعلم الذي صقل موهبته، فكان ابن المدرسة التشكيلية العراقية، وقد استطاع التقاط وفرز الجمال وتمثيله في أعماله."
تميزت أعمال الراحل بالقدرة على رسم الشيء والتقاط فكرة حديثة كاريكاتيرية، فقد كان متأثراً بالمدارس الشرق أوروبية، التي تُركز على كوميديا سوداء وكاريكاتير، فكان نعمة قريباً للادب اكثر مما هو للصحافة من خلال أعماله، حيث يشير ياسر إلى أنه "اطلع على المدرسة البلجيكية ، ورسم الكثير متأثراً برسامي هذه المدرسة، إلا انه استطاع ان يختط لنفسه طريقة بالرسم لاتشبه اي طريقة اخرى وكان احد الرسامين المدهشين."
لن يرغب بالحديث عنه بشكل اعتيادي، بل اختار الجانب الإنساني من ذاته للحديث عنه، فقد شاطره ذات السكن لمدة عامين، الفنان التشكيلي أديب مكي يتحدث عن صديقه الراحل ويقول "سأتحدث عن الجانب الانساني في هذا الرجل تعرفت اليه حين بدأت "مجلتي" بالانطلاق عام 1969، وقد بدأنا بالاعتياد على زيارة مقرها في ديوان الوزارة عام 1970، كنا نحضر مع الرسام بسام فرج يوم الجمعة لإكمال ما يتوجب إكماله من اعمالنا الاسبوعية كوقت اضافي للعمل، وقد جمعتنا صداقة متينة جداً، فتشاطرنا التسكع والتأمل."
"بعد أن هاجرت، التقيته ذات مرة، وقد شاطرني منزلي لسنتين وهنا تعرفت الى الكثير من جوانبه الانسانية" هكذا تحدث مكي عن نعمة قائلاً " بعد أن كان صديقي وكنا نلتقي في اماكن محددة، شاءت الظروف أن نلتقي في بيتنا ايضا، كانت فترة جميلة ذات بدايات صعبة، اصبحت المسائل بالنسبة لنا ذات سهولة اكثر لاننا تزاملنا وسكنا معاً كان هنالك تبادل خبرات ومعرفة حياة، كنت ارسم وكلي نزق، وكان يجلس للرسم بكل صبر وكأنه ينحت اللوحة نحتاً، وقد يكون تعلم الصبر من خلال عمله كخزاف." عن سؤال أطلقه مكي للراحل في ذلك الوقت يقول مكي" سألته عن سبب اختياره للخزف؟ فأجانبي قائلاً ان "الخزف فيه آفاق اخرى ورؤى اخرى"، كان مثل من له صخرة وينحت بها." كان أسلوب مؤيد نعمة في الرسم خاصاً، امتاز بالدقة والصبر وكأنه يؤلف اغنية حين يرسم بورتريتاً، او يكتب قصيدة، يذكر مكي
" لقد كنت حاضراً تجربته في النحت الكاريكاتوري، كان يعمل كخزاف، لكنه تميز بصناعة تماثيل الخزف لأساتذته، وكبار الفنانين والناس المشهورين وبعض زملائه، في عام 2004، كان بصدد تنفيذ مشروع ممتاز وجديد على الوسط الفني وهو تقديم عدد أكبر لتماثيل البورتريت الخزفية ويشمل اكثر عدد من الادباء والكتاب المشهروين العراقيين ،وتوفي قبل إنجازة وبقيت التماثيل من دون معرفة مصيرها وهي موجودة لتخليد بصمته الخاصة في هذا الفن."
عن المشروع الذي أشار إليه مكي، أكمل رسام الكاريكاتور علي المندلاوي الحديث عنه قائلا " إن هذا المشروع أرفده الراحل لدى الفنان ضياء العزاوي، وقد أوصاه أن لا يراه أحد، وقد ارسل العزاوي صور تلك الاعمال الى زوجته ولكن لظروف التكنولوجيا دور في إعاقة ذلك، لهذا حصلت أنا على صور الاعمال من قبل العزاوي وقد أبهرتني فقد كانت مفاجأة هذه المجموعة :سعدي يوسف رافع الناصري وضياء العزاوي ويوسف الصائغ وآخرين."
أما عن معرفته بالمحتفى به، فقد تربى المندلاوي على رسومات الراحل التي كان يتابعها في مجلة "مجلتي" حيث يقول المندلاوي " كنت طفلاً حين صدرت مجلتي من قبل الرعيل الاول من الفنانين، فهم اساتذتي، وقد استعنت لاستذكار مؤيد نعمة في ثلاثة أعمال من أعماله هو حيث استعنت بلوحة الحمامة الجالسة على دبابة، وعملت جسم الطائر برأس مؤيد نعمة، أما العمل الاخير الذي انجزته استعنت بعمله الوردة الخارجة من الارض وحاملة الحائط، وقد سبقني الفنان عبد الرحيم ياسر في استثمار هذه الفكرة حيث رسم مؤيد نعمة وهو يسقي هذه الزهرة لتنمو وتزيح الحايط ، أما أنا فقد رسمت مؤيد نعمة وهو يرفع الحائط، ونشرت العمل."
لم يكن مؤيد نعمة رساماً محلياً، فقد رسم للاطفال وابدع كثيرا، يؤكد المندلاوي" لقد نشأت على اعماله واعمال أديب وطالب مكي، كانت رسوم مؤيد نعمة مبهرة في وقتها ولاتزال أعماله للاطفال باقية في ذاكرتي وتحضرني إضافة الى رسومة للاطفال حيث رسم الكاريكاتير وأبدع فيه."
الحديث عنه يطول، إلا أنه وكما يذكر الناقد والكاتب علي حسن الفواز " كان الراحل على علاقة بالطيف الثقافي والادبي هو كان أقرب الناس للادباء، كان مؤمناً أن اللوحة التي يرسمها فيها قيمة أدبية أو رسالة أدبية أو خطاب أدبي ،لأنه كان مثقفاً ومؤدلجاً وكان يملك موقفاً." مؤكداً "أن المثقف صاحب الموقف او الفنان صاحب الموقف يملك أيدولوجيات ذات نزعات ثورية وإنسانية يحاول من خلالها أن يقدم أفكاراً مميزة من خلال اشتغالاته." مؤيد نعمة لم يكن بصرياً بمعنى استعراض للفن البصري ولا صاحب كتلة خطوط متشاكلة لتقدم بنية تشكيلية يذكر الفواز أن نعمة كان " صاحب أفكار تجعل من المتلقي يفكر أن خلف هذه اللوحة هنالك موقف ما فضلا عن انه يملك تقنية خاصة بالشكل الذي يبدو وكأنه ينقل تقاليد التشكيل بكل ما تعنيه من اشتغالات الى الفن الكاريكاتيري."
الجلسة كانت مليئة بالمداخلات حول الراحل، من بينها مداخلة للفنان التشكيلي أحمد الماجد التي تضمنت مقالاً كتبه الماجد بحق الراحل عام 2008، وهو عبارة عن قصيدة أكد فيها الماجد أن "تخطيطات الراحل جاءت وتجسدت في قصيدة." كما شارك الأستاذ فاروق فرحان بمداخلة شكر خلالها كلّ من حضر وتحدّث عن الراحل مؤيد نعمة "في زمن رديء اختلطت فيه الأوراق ."