الصفوف الإبتدائية

قدمت الباحثة دلال سلامة، ورقة عمل، حول المناهج المدرسية وتعزيز قيم الحوار والتسامح، في ورشة عمل أقامها مركز "نيسان" للتنمية السياسية والبرلمانية في عمان في السادس عشر من الشهر الماضي.

وتخلص الورقة، الدراسة كاملة إلى أن المحتوى التعليمي لكتب الصفوف المدرسية الثلاثة الأولى، لا يمثل خطوة باتجاه تكريس ثقافة التسامح الديني، والاعتراف بحق الآخر في الوجود، بل هو في الحقيقة يواصل تكريس القيم النقيضة لها.

وتنص الورقة على "بداية العام الدراسي الحالي، أقرت وزارة التربية والتعليم كتبًا مدرسية جديدة للصفوف الإبتدائية الثلاثة الأولى، تمثل المرحلة الأولى من خطة تطوير المناهج المدرسية للتعليم العام، الذي أعلنته وزارة التربية والتعليم".

وكانت الوزارة أعلنت خطتها في شباط /فبراير من العام الماضي، في أعقاب إعلانها نتائج دراسة أجريت على تلاميذ هذه الصفوف، وكشفت بحسب تعبير الوزارة آنذاك، ارتفاع نسبة الأمية بين تلاميذ هذه المرحلة، وبذلك فإن هدف خطة التطوير المعلنة إحداث إصلاح في محتوى هذه الكتب، بحيث تصبح أكثر فعالية في تزويد التلاميذ في هذه المرحلة بالمهارات الأساسية اللازمة.
لم يكن عجز المناهج الدراسية في التعليم العام، عن تزويد الطلبة بالمهارات الأساسية، التي تساعدهم على الاستفادة من التعليم الجامعي، واكتساب مهارات تمكنهم من المنافسة الحقيقية في سوق العمل، هو الانتقاد الوحيد الموجه إلى هذه المناهج. هناك بنفس القوة انتقاد موجه إلى المحتوى القيمي، الذي تتضمنه الكتب المدرسية، بالتحديد، كتب التربية الإسلامية، واللغة العربية، والدراسات الاجتماعية، التي وُجّهت إليها، على الدوام، انتقادات قاسية تتعلق بتكريسها الانغلاق، ومحدودية التفكير، ورفض الآخر، وهي ليست انتقادات جديدة، لكنها تصاعدت مع مطالبات بتعديلات جذرية على محتوى هذه الكتب، مع التطورات السياسية الأخيرة في الإقليم وصعود الجماعات المتطرفة.

وتعد هذه قراءة في الكتب الجديدة لمواد التربية الإسلامية واللغة العربية والتربية الوطنية والاجتماعية للصفوف الثلاث الأولى، ومحاولة لرصد حضور الآخر فيها، بالتحديد الآخر المختلف دينيًا، لمعرفة إن كانت هذه الكتب التي يمثل محتواها الخبرات التعليمية المنظمة الأولى التي يتلقاها الأطفال تكسبهم الوعي بالتنوع الذي عليه العالم، وتؤسس في وعيهم لثقافة قبول الآخر والاعتراف بحقه في الوجود، ورغم أن للهوية مكونات عدة، الدين هو واحد منها فقط، ورغم أنه لا يمكن عمليًا تجزئة التأسيس لثقافة قبول الآخر، لكن الرصد استهدف المختلف دينيًا فقط بسبب الأهمية النسبية لهذا المكون في ثقافتنا بالتحديد.

وأردفت الورقة، "في ثقافتنا، الدين هو جزء أساسي من الخبرات التي يتلقاها الأطفال في عمر مبكر جدًا أثناء تنشئتهم،  فمنذ سن الرابعة أو الخامسة، يبدأون التعرف على الله والجنة والنار، ويصبحون على تماس مباشر بطقوس الصلاة والصيام والحج. ويُطلب منهم استظهار أناشيد وقصص تتعلق بالرسول والصحابة وغيرها من القصص الدينية. وهذا الشكل من التنشئة لا يقتصر على الأسر الذي يأخذ تدينها طابعًا فكريًا أيديولوجيًا، بل إن له طابعًا اجتماعيًا عامًا. ويجب أن نعترف أن هذه التنشئة عمومًا، لا ترحب بالآخر المختلف دينيًا، بل هي على النقيض ترفضه، إذ هي تتعامل مع العقيدة الإسلامية هنا بوصفها الحقيقة الجاهزة المكتملة المطلقة، غير القابلة للنقاش، ويوصم كل ما عداها من عقائد بالضلال.

ويمكن هنا أن أستعين بخبرتي الشخصية كمعلمة لغة عربية في مدارس وزارة التربية لمدة 13 سنة، درست خلالها في محافظات المفرق وعمان وإربد، وساعدني ذلك على تلمس أثر هذه التنشئة.
وكان في منهاج اللغة العربية القديم للصف السابع، هناك موضوع تعبير مقرر على الطلبة كتابته، يتعلق بالاختلافات بين الشعوب في عادات الأكل واللباس. درّست هذا الصف أكثر من ست مرات، في عدة محافظات، وفي فترات زمنية مختلفة. وكان محزنًا أن أقرأ في كل سنة موضوعات تعبير ينقسم فيها العالم إلى قسمين، مسلمين وكفار. ويتحوّل فيها الحديث عن الاختلاف في عادات الطعام إلى مقارنات قاسية اللغة بين الكفار الذين يشربون الخمر، ويأكلون لحوم الخنزير والحيوانات المقتولة خنقَا، من ناحية، والمسلمين الذي لا يأكلون أو يشربون إلا طاهرَا. أما الاختلاف في عادات اللباس، فيصبح مقارنة بين المسلمين الذين تلتزم نساؤهم بملابس محتشمة، والكفار الذين يسمح رجالهم لنسائهم بالخروج إلى الشوارع شبه عاريات. وأتذكر أن هناك من كانت تذهب بعيدا، فتقارن بين المسلمين الذين يحافظون على روابطهم العائلية، والكفار الذين يطردون بناتهم من المنزل بمجرد بلوغهن الثامنة عشرة، أيضًا، بوصف غير محجبة في بيئات لا يُعدّ فيها هذا أمرًا مألوفًا، كان التساؤل الأول الذي ووجهت به كثيرًا من قبل التلميذات في المدارس التي كنت أُنقل إليها يتعلق بأن كنت مسيحية. في واحدة من المدارس التي عملت فيها، كان لدي زميلتان مسيحيتان، أخبرتني إحداهما بعد نقلي إلى المدرسة بأيام أنها سمعت التلميذات يتحدثن في ما بينهن، ويقلن إن المعلمات المسيحيات في المدرسة ارتفع عددهن بقدومي إلى ثلاث. ومرة وُجه إلي هذا السؤال من تلميذ في الصف الثالث، أرسلوني لأشغل بدل معلمته الغائبة.

السؤال هو، ما الذي يعرفه طفل في الثامنة عن الفرق بين المسيحية والإسلام، ليكون موضع تساؤل بالنسبة إليه دين المعلمة التي جاءت لتحل في صفه حصة واحدة بدلا من معلمته الغائبة؟ الإجابة هي: التنشئة.

ويتلقى الأطفال هذا النوع من التنئشة في وقت يستخدم فيه الدين في الوقت الحاضر، كما استخدم دوما، أداة لإثارة النزاعات وإدارتها، ومن هنا يأتي خطر أن تظل المدرسة امتدادا لهذا النوع من التنشئة. ومن هنا أيضا جاء الأمل بأن تلتفت خطة التطوير الحالية للكتب المدرسية إلى ذلك، وأن تتضمن ما يسير بالمحتوى التعليمي الذي يقدم لتلاميذ المدارس في اتجاه يجعلهم على معرفة بالتنوع الذي عليه العالم، وبمشروعية هذا التنوع، وحق أصحابة في الوجود. لكن القراءة في الكتب الجديدة تكشف أن إحداث تغيير في هذا الاتجاه لم يكن هاجسا لمن خطط لها.

 الدرس الأول في كتاب التربية الوطنية والاجتماعية للصف الأول هو عن الاختلاف، حيث يتعلم الأطفال أن البشر مختلفون، وأن عليهم تقبل اختلافاتهم والتعايش معا. لكننا سنلاحظ أن الكتاب عندما يعرض مظاهر هذا الاختلاف الذي يعلم الأطفال التعايش معه، فإنه يتحدث عن اختلاف أسماء الأفراد، الأذواق الشخصية لهم في اللعب والطعام، ومكان السكن، والأشياء المحزنة والمفرحة، ثم في مواضع أخرى يتعلمون اختلاف أشكال الأسر، وبيئة السكن. لكنه لا يقترب من الدين كأحد أهم مظاهر الاختلاف بين البشر، الذي يختبره الأطفال في ثقافتنا مبكرا.

ليس هناك في أي موضع في هذه الكتب ما يشير إلى ضرورة تقبل اختلاف المعتقدات الدينية وغير الدينية الأخرى. والتعايش مع أصحابها. بل نجد العكس، إذ يتعلم التلاميذ أنه من بين الكتب السماوية الثلاثة، القرآن والإنجيل والتوراة، فإن القرآن هو الكتاب السماوي الوحيد "الذي حفظه الله تعالى من التغيير والتحريف". أي أن الأطفال يتعلمون صراحة، أن الأديان السماوية الأخرى هي أديان مضللة. وهذا يُقال للأطفال في كتاب التربية الإسلامية للصف الثالث.

وفي موضعين، في كتابي اللغة العربية الصف الأول، والتربية الإسلامية للصف الثالث،  يتعلم الأطفال عن التعايش بوصفه قيمة بين المسلمين حصرا، عندما يتعلمون أن المسلم الحق هو من لا يسيء إلى المسلمين الآخرين بلسانه أو يده . وأن المسلم "يحب المسلمين جميعا، ويحافظ على أرواحهم وأموالهم، ويحرص على عدم إيذائهم بقول أوفعل"، وأن المسلم "لا يخيف المسلمين برفع صوت أو تهديد بعصا أو سلاح.

لا تلفت الكتب التلاميذ إلى التنوع الديني في الأردن، فباستثناء صورة لكنيسة مقابلة لمسجد في درس يتعلم فيه التلاميذ عن مكونات الحي،  فإن الكتب لا تتضمن أدنى إشارة إلى أن المجتمع الأردني يتمتع بتنوع ديني. مع ذلك فإن هذه الصورة تمثل تطورا على هذا الصعيد، ففي كتاب التربية الوطنية والاجتماعية السابق، كان هناك وحدة دراسية يتعلم التلاميذ فيها عن مؤسسات الدولة، وتتضمن درسا بعنوان "أماكن العبادة"، لم يُذكر فيه إلا المساجد. لكن سنلاحظ أن دليل المعلم للكتاب القديم، نبه المعلمين في الهامش أن يذكروا للتلاميذ أن هناك أماكن عبادة أخرى، غير المساجد، مثل الكنائس. أما دليل المعلم للمقرر الجديد، الذي حدّد ضمن إجراءات تنفيذ الدرس للمعلم الإجابات المتوقعة للتلاميذ عند تكليفهم بشرح مكونات الصورة، فقد جعل المسجد من بين الإجابات المتوقعة، ولم يجعل الكنيسة كذلك.

المحصلة، أنه باستثناء هذه الصورة، فإن هذه الكتب لا تتضمن أي إشارة إلى التنوع الديني في الأردن، بل هي على النقيض من ذلك، تصدّر هذا المجتمع إلى وعي الأطفال بوصفه مجتمعا مسلما خالصا.

التلاميذ مثلا عندما يتعلمون مفهوم العائلة، في مقرر التربية الوطنية الاجتماعية للصف الأول، يعرض الكتاب لهم ثلاث صور، تمثل ثلاث أسر مختلفة، كي يلتقط الطفل أن العائلات تأتي بأشكال متنوعة، لكن الأمهات في العائلات الثلاث محجبات، وبذلك فإن التنوع هنا، يظل محصورا في دائرة الإسلام. ومفهوم العائلة بالنسبة للتلميذ يصبح عمليا هو "العائلة المسلمة". أيضا، جميع الأعياد والطقوس الدينية، في هذين المقررين، التي ذُكرت بوصفها جزءا من الحياة الاجتماعية التي يتعلم عنها الأطفال، إسلامية.
تنميط المرأة

وفي السياق نفسه، فإنه من بين 49 صورة لنساء في مقرري اللغة العربية والتربية الوطنية والاجتماعية للصفوف الثلاثة، هناك 42 صورة، النساء فيها محجبات، وتشمل الصور أمهات محجبات داخل المنزل، وعلى مائدة الطعام مع أسرهن.

سيقال إن هذا يعكس الصورة الواقعية للمجتمع، وهذا صحيح. لكنه يعكس أيضا نظرة ضيقة إلى وظيفة المدرسة، المفترض ألا تكون نافذة التلاميذ على مجتمعهم المحدود فقط. بل أن تكون نافذتهم أيضا على العالم. وهو ما لم تفعله هذه الكتب، فالعالم غائب تقريبا، أو هو باستثناء موضع واحد في الكتب، هو قصة عن مخترع المصباح الكهربائي، توماس أديسون، لا يستحضر في سياق إيجابي، بل في سياق الصراع، أي في سياق الحديث عن الصراع بين المسلمين و"الكفار والروم والصليبيين".

من الملاحظات أيضا على هذين المقررين، مع التأكيد على أنهما مقرران موجهان لأطفال من خلفيات دينية متعددة، الشحنة الدينية الهائلة فيهما، ففي كتب اللغة العربية للصفوف الثلاثة، من بين 46 درسا، هناك 20 منها اشتملت على محتوى ديني. ثمانية منها دينية بالكامل، أي بنصّها الذي كان عبارة عن آيات قرآنية أو أحاديث نبوية أو قصص دينية. وبالأسئلة والأنشطة الملحقة بها. في حين اشتملت الأنشطة الملحقة بـ12 درسا على محتوى ديني، كان آيات قرآنية أو أحاديث نبوية تتعلق بالقيم التي تطرحها الدروس، طُلب من الأطفال حفظها.

وفي مقرر التربية الوطنية والاجتماعية، حيث يتعلم التلاميذ عن مفاهيم أساسية، مثل العائلة والحي والمواطنة والحقوق والواجبات والمؤسسات الوطنية، تضمن 19 درسا من أصل 36 درسا محتوى دينيا إسلاميا، من خلال صورة، أو آية قرآنية، أو حديث نبوي أو قصة من حياة الرسول (ص) أو الصحابة أو التاريخ الإسلامي.

 لقد رُبطت معظم القيم الإنسانية في هذين المقررين بالإسلام، فعند الحثّ على الصدق، قيل إن "من صفات المسلم الصدق وعدم الكذب". والحثّ على العمل التطوعي رُبط بحديث "إماطة الأذى عن الطريق صدقة". والحثّ على زيارة المريض، بالقول إن "ديننا الحنيف يحثّنا على ذلك". وحُث على التسامح بآية قرآنية "ادفع بالتي هي أحسن" وبقصة "اليهودي" الذي كان يرمي النفايات أمام منزل الرسول (ص). واحترام كبار السن رُبط بحديث نبوي. وفي الدعوة إلى حمل المسؤولية، طُلب من التلاميذ استحضار آيات من القرآن تحث على تحمل المسؤولية. وربط الحديث عن العدالة والمساواة بقصة لعمر بن الخطاب، ونصوص من القرآن والحديث النبوي. والحثّ على المشاركة الاجتماعية، بقصتين من حياة الرسول.

وتعظيم قيمة الصداقة، ربط بحديث "لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه". وفي الحثّ على التصرف بحضارية في الطرقات، ربط بحديث "إياكم والجلوس في الطرقات..". الحثّ على عدم الخصام بين الأخوة، ربط بحديث لا يحل لمسلم أن يهجر أخاه فوق ثلاث ليال. ورُبط الحديث عن أهمية الغذاء المتكامل بآية "كلوا من طيبات ما رزقناكم"وبحديث نبوي يحض على الأكل باليد اليمنى. وفي الحث على الجرأة في التعامل مع الناس، استُحضرت قصة لعمر بن الخطاب. والأمر ذاته في تعظيم قيمة الحرية، والرفق بالحيوان، التعامل الحسن مع الوالدين، والامتناع عن الغش. وتعظيم قيمة العمل، والحث على طلب العلم، كل هذه القيم، التي دُرّست في دروس منفصلة، رُبطت بآيات أو أحاديث شريفة أو قصص دينية.

وليست المشكلة هنا في ربط القيم بالإسلام، بل في ربطها الحصري بالإسلام، وجعل الأمر يبدو في وعي الأطفال كما لو أن الإسلام هو مصدرها الوحيد، ما ينفي عنها عموميتها الإنسانية، ويفوّت على التلاميذ إدراك حقيقة أساسية، هي أن هذه القيم هي المكونات الأساسية لنظم إيمانية أخرى، دينية وغير دينية.

لكن لأن هذه النظم غائبة، في الكتب، فإن هذا يجعل الإسلام في وعي الأطفال الحقيقة المطلقة الوحيدة، وليس ببساطة واحدا من متعدد. وكما سبقت الإشارة، لقد قيل هذا بصراحة للأطفال، عندما تعلموا أن القرآن هو الكتاب المقدس الوحيد الذي نجا من تحريف البشر.

وحتى في كتب العلوم، سنجد شحنة دينية، إذ يُقدّم لكل درس بآية قرآنية يعلق مضمونها بالحقيقة العلمية التي يعرضها الدرس. بما يجعل الأمر يبدو كما لو أنه ليست فقط القيم النابعة من الإسلام حصرا، بل الحقائق العلمية أيضا.

إذن لدينا في المحصلة كتب، تغيّب واقع التنوع الديني في الأردن، وتصدر المجتمع الأردني إلى وعي التلاميذ بوصفه مجتمعا مسلما خالصا، ثم هي تصدّر الإسلام حقيقة مطلقة وحيدة، وتدمغ بالضلال العقائد الأخرى. كما أنها تطرح التعايش بوصفه قيمة مطلوبة، لكن بين المسلمين حصرا. ومن هنا فإن المحتوى التعليمي لكتب الصفوف الثلاثة الأولى، لا يمثل خطوة باتجاه تكريس ثقافة التسامح الديني، والاعتراف بحق الآخر في الوجود، بل هو في الحقيقة يواصل تكريس القيم النقيضة لها.