بيروت ـ جورج شاهين
ترأس البطريرك الماروني الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي قداس رأس السنة لمناسبة "يوم السلام العالمي"، في كنيسة السيدة في الصرح البطريركي في بكركي، عاونه فيه المطارنة بولس صياح، حنا علوان، سمير مظلوم، سمير نصار، بولس روحانا ولفيف من الآباء بمشاركة السفير البابوي المونسينيور غابريال كاتشيا، عدد من المطارنة والكهنة، كما حضر القداس رئيس الرابطة المارونية الدكتور جوزف طربيه، الأمينة العامة للمؤسسة المارونية للانتشار هيام البستاني، الرئيسة العامة لراهبات القلبين الأقدسين الأم دانيالا حروق ومجلس المدبرات، أعضاء اللجنة الاسقفية "عدالة وسلام"، وحشد من الفاعليات والمؤمنين. بعد الانجيل المقدس، ألقى البطريرك الراعي عظة بعنوان " ودعي اسمه يسوع"، قال فيها: نحتفل معًا بهذا اليوم العالمي للسلام 2013. بدعوة من اللجنة الأسقفية "عدالة وسلام" المنبثقة عن مجلس البطاركة والأساقفة الكاثوليك في لبنان، وهي برئاسة سيادة المطران سمير مظلوم نائبنا البطريركي، الذي أحييه وحضرةَ نائب الرئيس قدس الأب الياس آغيا، الرئيس العام لجمعية المرسلين البولسيين، وسائرَ أعضاء اللجنة ومعاونيهم. كما نحييكم أنتم جميعا، وقد أتيتم لرفع الصلاة من أجل السلام في العالم، لا سيما في لبنان وسوريا وسائر بلدان الشرق الأوسط، وللالتزام بقضية السلام، وفقا لتعليم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر وتوصياته في رسالته الموجهة لهذه المناسبة. وقال:إنَ التوق الى السلام هو في داخل كلِ إنسان، لأنه مخلوق على صورة الله ومن أجل السلام الذي هو في الأساس عطية من ألله ومن جوهره. ولكي يكون كل شخصٍ إبنا وابنة لله، ينبغي أن يلتزم بصنع السلام. ولهذا، كانت الطوبى الإنجيلية: "طوبى لصانعي السلام، فإنهم أبناء الله يدعَون"(متى5: 9). إلتزام السلام هو بنوعٍ أخص دعوة المسيحين ورسالتهم، وقد قبلوها من المسيح، سلام الشعوب وملك السلام. ثمة أخطارٌ عديدة تهدد السلام، وقد عددتها الرسالة البابوية، داعية الى تجديد الإلتزام الجماعي في البحث عن الخير العام، وإنماء الإنسان بشموليته. السلام الحقيقي المعطى من المسيح يولَد من لقاء الإنسان بالله، لقاء مفعما بالثقة، نختبر فيه فرح عطيةٍ سامية هي تقاسم حياة الله نفسها، حياة النعمة والسعادة والسلام الداخلي. فيكون السلام، في آن، عطية الله وعمل الإنسان. عطية سلامٍ تنبع من الله، وتعاش مع الآخرين ومن أجلهم بأخلاقية الشركة والتقاسم، وتبنى على ركائز أربع مترابطة هي: الحقيقة والحرية والمحبة والعدالة. ولكي نصبحَ صانعي سلام حقيقيين، ينبغي أن نتغلب على الخطيئة التي هي نقيض السلام مع الله والذات والناس. فالخطيئة تعني أنانية وعنفا وجشعا وتسلطا واستكبارا وبغضا وحقدا وظلما. صانع السلام هو الذي يبحث عن خير الآخر، بنفسه وجسده. نستخلص من هذا التعليم أنَ كلَ شخص وكلَ جماعة، أكانت دينية أم مدنية، أم تربوية وثقافية، مدعوان للعمل من أجل السلام وإنماء الإنسان والمجتمع إنماء شموليا. فالسلام هو، في الأساس، تحقيق الخير العام لمختلف المجتمعات. ولهذا السبب، الكنيسة مقتنعة بضرورة الإعلان الجديد لسر يسوع المسيح، الذي هو الفاعل الأول والأساسي في إنماء الشعوب وإحلال السلام. صانعو السلام هم الذين يحبون الحياة البشرية بشموليتها، ويدافعون عنها، ويعززونها. الطريق المؤدي إلى الخير العام والسلام هو احترام الحياة البشرية في كل مراحلها: الحبل والولادة والنمو حتى نهايتها الطبيعية، والدفاع عنها، وتعزيزها في كل أبعادها، الشخصية والجماعية. ملء الحياة هو ذروة السلام. من يحب السلام، لا يستطيع تحمل الاعتداءات والجرائم ضد الحياة البشرية، بدءا من الإجهاض، ولو ظن طالبه وصانعه أنه يشكل سلاما تحريريا له، لكنه سلام كاذب يغش. إن قتل كائن بشري بريء غير قادر على الدفاع عن نفسه، والهرب من المسؤوليات لا يستطيعان ابدا إنتاج سعادة أو سلام. هذه كلها مبادىء مكتوبة في طبيعة الإنسان يمكن معرفتها بالعقل وبالتالي هي مشتركة للبشرية جمعاء. ولذلك، عندما تعلمها الكنيسة، فإنها تتوجه إلى جميع الناس، أيا يكن انتماؤهم الديني. يكون هذا التعليم ضروريا بمقدار ما تكون هذه المبادئ مرفوضة أو منكرة أو غير مفهومة، لأن ذلك يشكل إساءة لحقيقة الشخص البشري، وانتهاكا للعدالة والسلام. ولذا، اعتراض الضمير على كل قانون أو ممارسة أو تدابير حكومية تنتهك الكرامة البشرية، مثل الإجهاض والقتل الرحيم واعتماد العنف والحرب، إنما يشكل مساهمة مرموقة لصالح السلام. صانعو السلام هم أيضا أولئك الذين يحترمون الحرية الدينية التي تشمل: حرية الشهادة للدين الخاص، وحرية إعلان تعليمه ونقله، وحرية القيام بنشاطات تربوية وأعمال رحمة ومساعدة تطبيقا للرسوم الدينية، وحرية إنشاء أجهزة اجتماعية ونشاطها، وفقا لمبادئها التعليمية ولأهدافها التأسيسية. وهم الذين يدافعون عن الحقوق والواجبات الاجتماعية، ومن بينها الحق في العمل وواجب العمل، وسواه من الحقوق المدنية والسياسية التي تساعد المواطنين على تحقيق ذواتهم. فمن أجل تحقيق السلام، يجب احترام حقوق العمال، والتزام هؤلاء بواجباتهم. تقتضي الكرامة البشرية والمنطق الاقتصادي والاجتماعي والسياسي توفير فرص العمل للجميع، كخير أساسي للشخص والعائلة والمجتمع، مبني على المبادئ الأخلاقية والقيم الروحية. ما يقتضي وجود سياسات جريئة ومتجددة لصالح العمل والعمال. ان تحقيق السلام بكل مقوماته وأبعاده، يقتضي إيجاد نموذج جديد للإنماء، ونظرة جديدة للاقتصاد، إنطلاقا من القيم الروحية والأخلاقية التي مصدرها الله. إن الوسائل المتعددة لتحقيق الإنماء، والخيارات المتنوعة لنمو الاقتصاد، ينبغي استعمالها بتطلعات نحو حياةٍ صالحة ومسلكٍ مستقيم يعطيان الأولوية للبعد الروحي وتأمين الخير العام، وإلا فقدت قيمتها الحقيقية، ونصبت نفسها أصناما جديدة". من الضروري، للخروج من الأزمة المالية والاقتصادية الراهنة التي تزيد من هوة عدم المساواة، أن يقوم أشخاصٌ وجماعاتٌ ومؤسساتٌ ملتزمون تعزيز الحياة وتحفيز الإبداع، بحيث يستخرجون، من الأزمة نفسها، المناسبة للتمييز ولاستنباط نموذج إقتصادي جديد. من المؤسف أن يكون النموذج، الذي ساد هذه العقود الأخيرة، قد التزم السعي إلى تضخيم الربح والاستهلاك، بنظرةٍ فردية وأنانية، وإلى تقييم الأشخاص حصرا بقدرتهم على التنافس. لكن النموذج الاقتصادي الجديد المنشود هو الذي يعتبر أنَ النجاح الحقيقي والدائم نناله بهبة الذات، وبتوظيف القدرات الفكرية الخاصة، وبروح المبادرة. ذلك أنَ الإنماء الاقتصادي المقبول، المميز بالأصالة الإنسانية، يحتاج إلى مبدأ المجانية كتعبير للأخوة ومنطق العطاء. على مستوى النشاط الاقتصادي، صانع السلام هو الذي يقيم علاقات إخلاص وتبادل، مع معاونيه وزملائه والمتعهدين والمستفيدين؛ ويمارس النشاط الاقتصادي من أجل الخير العام، ويعيش التزامه كشيء يتعدى فائدته الشخصية، لصالح الأجيال الحاضرة والطالعة. وهكذا يعمل ليس فقط لذاته، بل أيضا لكي يوفر للآخرين مستقبلا وعملا لائقا. فيطلب من الدول: وضع سياسات للانماء الصناعي والزراعي، من شأنها الإهتمام بالترقي الإجتماعي وبشمولية دولة الحق الديموقراطية، وضع بنية أخلاقية للأسواق النقدية والمالية والتجارية بشكل مستقر ومنسَق ومراقَب، بحيث لا تَضر بمن هم أكثر فقرا؛ تعزيز الإستقرار الغذائي بروح التضامن والرقابة من كل الحكومات على المستويين المحلي والدولي، بهدف تمكين المزارعين من القيام بعملهم بطريقة كريمة ومستمرة إجتماعيا وبيئيا واقتصاديا. وأضاف: إنَ التربية على ثقافة السلام تحقق الخير العام وتولد جوا من الاحترام والإخلاص والمودة والعيش معا بذهنية صنع الخير ونبذ العنف وبروح الغفران والمصالحة. ويختم قداسة البابا بندكتوس السادس عشر رسالته هذه بمناسبة "يوم السلام العالمي"، مؤكدا أن المسيح، أمير السلام، هو النموذج والمثال لصانعي السلام. ويدعونا لنصلي مع الطوباوي البابا يوحنا الثالث والعشرين: لكي ينيرَ الله المسؤولين المدنيين في تدعيم عطية السلام والدفاعِ عنها، ولكي يعمل الجميع على تخطي الحواجز التي تفرق، ويشددوا أواصر المحبة المتبادلة، غافرين للذين أساؤوا، متفهمين بعضهم بعضا، فتنموَ الأخوة بين شعوب الأرض وتزدهر، ويملك السلام المنشود على الجميع. بهذا الدعاء، يتمنى قداسة البابا أن يتمكن الجميع من أن يصبحوا صانعي سلام، حتى ينمو في مدينة الأرض الإتفاق الأخوي أساس الإزدهار والسلام.. ونحن في لبنان وبلدان الشرق الأوسط، نلتزم بأن نكون صانعي سلام لكي نستحق أن ندعى أبناء الله.