بينما كان العالم ينتظر يوم 28 من تشرين الأول/ أكتوبر للاحتفال باليوم العالمي للقضاء على شلل الأطفال، والذي تم اختياره نسبة إلى يوم ميلاد العالم الأميركي جوناس سالك، الذي تمكن في عام 1955 من تطوير أول لقاح فعال ضد شلل الأطفال، تلقت أمهات 22 طفلا في ريف دير الزور خبر إصابة أطفالهن برخاوة حادة في عضلات السَّاق، تسبَّبت لهم بإعاقة مدى الحياة، لتضيف إلى حياتهم المليئة بالموت أمراضًا كان العالم قد نسيها منذ أعوام طويلة. قضت سورية على أخر حالة لشلل الأطفال الوبائي في عام 1998 وكانت ضمن العديد من الدول التي قضت على هذا المرض المعدي، ولكن دون سابق إنذار كشفت منظمة الصحة العالمية في 5 تشرين الأول عن وجود 22 طفلاً أعمارهم دون السنتين مصابين بمرض شلل الأطفال في ريف محافظة دير الزور، ثم ازداد العدد ليصل إلى 40 حالة حسب ناشطين في تلك المناطق، وهو مازال يهدد بالانتشار لبقية المحافظات السورية. وقالت منظمة الصحة العالمية: إن الفيروس ربما انتقل من باكستان، وهي إحدى الدول الثلاث التي لا يزال يوجد فيها المرض. وحذرت من أن "ظهور المرض في سورية يشكل تهديدًا لملايين الأطفال في أرجاء الشرق الأوسط". وكشف برنامج الإنذار والاستجابة المبكرة للأوبئة التابع لوحدة تنسيق الدعم بالائتلاف الوطني المعارض عن رصد 66 حالة رخود حاد (شلل أطفال) تأكد منها 5 حتى الآن مخبرياً، وتعتبر محافظة دير الزور المتضرر الأكبر، بحيث بلغت عدد الحالات فيها 52 والباقي تتوزع على إدلب وحلب وحماة والحسكة والرقة، وهذا حسب ما ذكره مدير البرنامج الدكتور محمد السعيد. وأضاف السعيد أن "البرنامج يحصل على تقارير مستمرة من خلال 100 مركز طبي موزعين في مختلف أنحاء سورية، ويزور مندوبو البرنامج تلك المراكز عبر اجتماعات دورية للاطلاع على جميع الحالات المرضية الواردة إلى المراكز، دون تقديم اللقاحات اللازمة للمرضى وذلك بسبب عجز منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة "يونيسف" عن تقديم اللقاحات لوحدة تنسيق الدعم أو أية جهة طبية تتبع للثورة السورية". يبلغ حسان من العمر عام و4 أشهر وهو مصاب بتلف في أعصاب القدم اليمنى (شلل الأطفال) لم يتلق اللقاحات على الإطلاق منذ ولادته وذلك بسبب عدم وجود اللقاحات في المركز الطبي الموجود في بلدة "صبيخان" الواقعة في ريف دير الزور، وتقول أم حسان "إن ولدي لا يستطيع الوقوف على قدمه اليمنى ولا يشعر بها على الإطلاق ولم يستطع المشي حتى الآن"، وأشارت أم حسان إلى صعوبة الحصول على اللقاحات ضد المرض وذلك لندرة وجود هذا النوع من اللقاح في جميع المراكز الطبية الموجودة في البلدة بالإضافة إلى البلدات المجاورة". ويعود سبب الإصابة بمرض شلل الأطفال في دير الزور لعدة أسباب وهي غياب اللقاحات عن الأطفال في سورية لمدة طويلة وكانت تصل نسبة التلقيح إلى 95% بينما الآن لا تكاد تصل إلى 40% وهذا حسب ما أفاد به عضو المكتب الطبي لمدينة دير الزور الدكتور المتخصص بأمراض الأطفال مصطفى الديري، مضيفاً إن سكان محافظة دير الزور وريفها يشربون جميعهم من مياه نهر الفرات التي تصب فيه مجاري الصرف الصحي وهذه المياه ملوثة نتيجة خلل كبير في محطة تصفية المياه. وأشار الديري إلى أن "وزارة الصحة التابعة للحكومة السورية رفضت إعطاء المكاتب الطبية التي تعمل لصالح المعارضة أي دواء أو لقاح مع العلم أنها هي الجهة الوحيدة التي تحصل على هذا اللقاح في سورية"، مؤكدا أن "هذه السياسة التي تتبعها الحكومة هي مماثلة للشعارات التي يحملها جنوده والتي تقول "الجوع أو الركوع". وفي الوقت الحالي تلدُ غالبية النساء في المنازل وهذا ما اعتبره الديري أحد أهم الأسباب لانتشار المرض حيث كان في السابق يتم تلقيح الطفل مباشرة بعد الولادة، ولكن بعد دمار وقصف أغلب المشافي فإن الولادة تتم في المنازل وبالتالي تأجيل عملية التلقيح لوقت أخر تتعدى المدة التي يجب أن يأخذ فيها الطفل الجرعة الأولى. كما أن العديد من مناطق ريف دير الزور لا تصل المياه فيها إلى المنازل على الإطلاق، وهم على هذه الحالة منذ أكثر من 8 أشهر، ويجلبون المياه عن طريق "الصهاريج" من النهر مباشرة دون تصفية أو تعقيم، وهذا حسب ما قاله مهند أحد سكان مدينة الكسرة الواقعة في ريف دير الزور، والذي وصف المياه مستهترًا بأنها "طازجة" تصل من النهر مباشرة، مشيرًا إلى أن "مياه النهر ملوثة بشكل كبير ومعظم نفايات الحراقات التي ظهرت حديثًا والتي تقوم بعملية تكرير النفط بطريقة غير شرعية تصب في النهر، وهذا التلوث نقل العديد من الأمراض إلى المنطقة". بالإضافة إلى ذلك كله، فإن القرى والبلدات لا تمتلك ألية منتظمة لنقل الأوساخ والقمامة من داخل الأحياء السكنية في أغلب المناطق، وهذا ما يؤدي إلى انتشار العديد من الأمراض والأوبئة، ويقول أبو عمار الذي يسكن في قرية صبيخان "في بعض الأحيان تبقى القمامة وفضلات الطعام لمدة أسبوع داخل الأحياء السكنية قبل نقلها خارج المدينة". تخضع العديد من المناطق في سورية إلى حصار خانق وذلك بعد اتباع الأسد ضدها سياسة "الجوع أو الركوع" وشملت هذه السياسة الواقع الطبي أيضاً، حيث إن الأحياء خلت من لقاحات الأطفال والأدوية بشتى أنواعها، ما دفع بعض الأشخاص للمخاطرة ولنقل اللقاحات من المراكز الصحية التي تتبع للأسد إلى مناطق الثوار لسد بعض الحاجات. ويذكر الناشط في المجال الإغاثي أحمد الصالح أن كمية اللقاحات داخل مدينة دير الزور تكاد تكون معدومة، وهذا دفع إحدى الممرضات التي تعمل لدى المشفى العسكري التابعة للحكومة والواقعة في حي غازي عياش (مازالت عناصر الأمن والميلشيات تنتشر فيه) لإخفاء كميات قليلة من اللقاحات تحت ثيابها ومن ثم نقلها إلى الطرف الثاني من المدينة والذي يسيطر عليه الجيش الحر وتقديمها للمكتب الطبي الذي يعمل على تلقيح عدد من الأطفال من خلالها. وتظهر الإصابة بمرض شلل الأطفال نتيجة الإصابة بفيروس البوليو "Poliovirus" ويصيب الأطفال ممن هم دون الخامسة من العمر، وهو فيروس شديد العدوى ينتقل من شخص مصاب إلى سليم، مستهدفاً الجهاز العصبي للإنسان فيصيبه بالألم عند الأطراف وارتخاء العضلات وتصلب الرقبة، كما أن ارتفاع الحرارة والتقيؤ من بين أعراضه الشائعة أيضاً وهذا حسب ما أوضح به الدكتور مثنى العيسى. وأشار العيسى إلى أن "الانتقال يسهل عن طريق التنفس أو اللمس وكذلك الغذاء والماء الملوثين، ويدخل الفيروس إلى الجسم عبر الفم أو الأنف، ثم يتكاثر في الحلق والأمعاء وبعدها يتم امتصاصه إلى الجسم وينتقل عبر الدم إلى باقي أجزائه، وفي العادة فإن فترة حضانة الفيروس (المدة الزمنية من دخوله الجسم إلى بدء ظهور الأعراض) هي ما بين 5 و35 يوما، ولكنها في المتوسط من أسبوع إلى أسبوعين". منوّها إلى أنه "عند الشك في حالة ما فيتأكدون أولا سريريا أنها تتوافق مع شلل الأطفال والذي يتم من خلال الكشف عن غياب الحركة في بعض المجموعات العضلية في الطرف السفلي بالإضافة إلى بقاء الحس سليم ويتم من خلال القرص أو ما شابه، ومن ثم يتم أخذ عينة من البراز لتحليلها والتأكد من وجود الفيروس داخل الجسم، و99% من الحالات تصاب الأطراف السفلية فقط وفي أغلب الحالات تصيب طرف واحد". الوقاية من المرض تتم عن طريق التطعيم (اللقاح) الذي يعتبر السلاح الأساسي للوقاية من المرض، ويتم عبر إعطاء الشخص فيروسات المرض التي تمنع تفعيلها، وبالتالي تصبح غير قادرة على التسبب في الأذى للشخص، لكنها كافية لتحفيز جهاز المناعة على تكوين أجسام مضادة تتعرف على الفيروس وتهاجمه وتقضي عليه. وقال العيسى: إن اللقاحات الخاصة بالمرض عبارة عن 5 جرعات تعطى الجرعة الأولى عند عمر 45 يوما، والجرعة الثانية عند عمر ثلاثة أشهر، والجرعة الثالثة عند عمر خمس أشهر، والجرعتين الأخيرتين في عمر سنة ونصف والأخيرة بعد الأربع أعوام. وللحد من انتشار المرض انتشرت حملة تلقيح مكثفة ضد مرض شلل الأطفال حاليا في سورية، بالإضافة إلى 6 بلدان أخرى في الشرق الأوسط وتهدف لحماية 20 مليون طفل، وذلك حسب ما أعلنت منظمة الصحة العالمية وصندوق الأمم المتحدة للطفولة (يونيسف) في جنيف. وتم تلقيح قرابة 650 ألف طفل في سورية منهم 116 ألف في دير الزور حيث سجلت إصابات بشلل الأطفال. كما أوضح بيان لمنظمة الصحة العالمية واليونيسف. وتم تنفيذ هذه الحملة في سورية عن طريق وزارة الصحة التي تتحكم بها الحكومة، والتي تفرق بين مناطق خرجت عن سيطرته وأخرى ما تزال تحت قبضته، ويقول مدير برنامج الإنذار والاستجابة المبكرة الدكتور محمد السعيد عن الحملة التي قامت بها منظمة الصحة العالمية "غير شاملة ولا تتم وفق المعايير الصحيحة ولم تصل اللقاحات إلى مناطق الإصابة بالمرض"، مضيفا أن "احتواء المرض صعب جدا خصوصا إذا لم تحصل الوحدة على اللقاحات ومن ثم توزيعها بطريقة صحيحة وبأيد أمينة حريصة على هؤلاء الأطفال". وقال نائب رئيس الحكومة المؤقتة إياد قدسي: إن الحكومة المؤقتة تسعى لإجراءات إسعافية عاجلة في القطاع الصحي كبناء المشافي وتأمين الكوادر الطبية وتوفير الأدوية اللازمة بالإضافة إلى اللقاحات ويعتبر الحصول على اللقاح ضد شلل الأطفال من أولويات عملنا في هذه المرحلة، لافتاً أن هناك صعوبة في تأمين كوادر طبية وإيصال الأدوية والمستلزمات إلى المناطق المحاصرة". وأوضح قدسي أن "هناك عدة شركات يابانية عرضت على الحكومة إنشاء مشافي وتقديم كامل التجهيزات الطبية للجراحات السريعة والمستعجلة"، مشيرا إلى أن "جميع هذه الأمور سيبدأ تنفيذها على الأرض عند توفير الأمن داخل الأراضي السورية". وأعلن القسم الطبي في وحدة تنسيق الدعم عن "إتمام التجهيزات لإطلاق حملة لقاح جوالة ضمن المناطق السورية المحررة قبل نهاية العام الجاري، بمشاركة فريق عمل مكافحة شلل الأطفال، وتشمل الحملة 6 جولات تلقيح تزور جميع المنازل في المناطق المحررة ضمن 7 محافظات، وهي: دير الزور، حلب، الحسكة، الرقة، إدلب، اللاذقية، وحماة، ويشارك في الحملة 7500 متطوع منهم 200 طبيب ويبلغ عدد الفرق الجوالة 3200 فريق وعدد المراكز 83 مركزا، وتبلغ تكلفة الحملة التي تستمر على مدى ستة أشهر أكثر من خمسة ملايين دولار". وكانت وحدة تنسيق الدعم تقوم بإعداد دورات متخصصة لتأهيل كوادر بشرية من الداخل السوري ليكونوا مُنفّذين ومُدرّبين لكوادر أوسع في الداخل، بحيث تضمن الوحدة دقة تنفيذ خطط توزيع اللقاح بالظروف المثالية وضمن الإستراتيجية الموضوعة التي تكفل وصول اللقاح لكل طفل وفي بيته، والهدف من هذه الدورات التأكيد على قدرة الوحدة استلام اللقاح من منظمة الصحة العالمية وأيضاً على استطاعتها في البدء الفوري بالعملية الشاملة. وأكدت رئيسة وحدة التنسيق والدعم سهير الأتاسي أن "الوحدة جاهزة لوجستيًا للقيام بحملة لقاحات واسعة من بيت إلى بيت وذلك من خلال تدريب أكثر من 7 ألاف متطوع على أسس تقديم اللقاحات للأطفال". كما أنشأت وحدة تنسيق الدعم ACU التابعة للائتلاف الوطني السوري "برنامج الإنذار والاستجابة المبكرة EWARN" الذي يهدف إلى الكشف والاستجابة والاحتواء بأسرع وقت ممكن للأمراض ذات الطبيعة الوبائية بين السكان المتضررين. حتى الآن لم تقدم منظمة الصحة العالمية ومنظمة الأمم المتحدة للطفولة "اليونيسف" اللقاحات اللازمة ضد شلل الأطفال لوحدة تنسيق الدعم التابعة للائتلاف الوطني السوري وللمكاتب الطبية التابعة للثوار، وذلك بسبب عدم قدرتها على الاعتراف بأي جسم معارض في جميع بلدان العالم، وتقول الأتاسي "هذه المنظمات مكبلة ومقيدة"، وخصوصا أن هذا المرض يدق ناقوس الخطر في جميع المحافظات ويزيد أوجاعا جديدة للسوريين في حقبة سوداء تمر بها البلاد، منوّهة إلى أن "الأطفال أصبحوا رهينة من أجل الذهاب إلى جنيف" من خلال الربط بين تسليم الوحدة اللقاح ضد شلل الأطفال والذهاب إلى جنيف لطرح هذه القضية على طاولة الحوار.