دبلن - عمان اليوم
عندما استخدم السياسي والكاتب الآيرلندي البارز إدموند بيرك مصطلح «السلطة الرابعة» للمرة الأولى في التاريخ خلال جلسة افتتاح مجلس العموم البريطاني عام 1787، لم يكن يتصوّر ما ستؤول إليه هذه السلطة يوماً والأشكال التي ستتخذها والتأثير الواسع الذي ستبسطه على كل مناحي الحياة.في ذلك الوقت لم تكن السلطات الثلاث الأخرى هي التي نتعارف عليها اليوم: التنفيذية والاشتراعية والقضائية، بل «السلطة الروحية» التي كان يمثّلها اللوردات المنتخبون عن الكنيسة، و«السلطة الزمنية» التي يمثّلها اللوردات المنتخبون عن طبقة النبلاء و«سلطة عموم الناس» التي يمثّلها السياسيون. ويُروى أن بيرك أشار وقتها إلى مندوبي الصحف الذين كانوا يتابعون الجلسة من إحدى زوايا القاعة وقال: «سلطة الصحافة أقوى من السلطات الثلاث مجتمعة».ومع مرور الزمن والتطور الهائل الذي شهدته وسائط الاتصال، خصوصاً في العقود الأخيرة، أصبحت وسائل الإعلام لاعباً سياسياً واقتصادياً وثقافياً رئيساً في المجتمعات المعاصرة، وطرفاً أساسياً في لعبة القوى والصراعات الجيوسياسية، تتنافس مراكز القرار الكبرى على امتلاكها أو السيطرة عليها.
ظاهرة برلوسكوني
ولعلّ المثال الأبرز، والرائد، على الدور الحاسم الذي تلعبه وسائل الإعلام في توجيه الرأي العام وتسويق المشاريع والشخصيات السياسية هو رئيس الوزراء الإيطالي الأسبق سيلفيو برلوسكوني، الذي دخل اقتحم المشهد السياسي بسرعة مذهلة على صهوة الإمبراطورية الإعلامية «ميدياست» التي تضمّ عشرات الأقنية التلفزيونية، منها ثلاث رئيسية، إضافة إلى عدد من الصحف والمجلات ودور النشر والإذاعات ومنصّات التواصل الاجتماعي.
وتملك مجموعة برلوسكوني الإعلامية قنوات للتلفزيون في إسبانيا ودول البلقان، وهي تتفاوض حالياً مع مجموعتي «كاراكول» الكولومبية و«غلوبو» البرازيلية للدخول إلى سوق أميركا اللاتينية، ونجوميّة برلوسكوني كانت مستحيلة من غير شبكة وسائل الإعلام الواسعة التي سخّرها لتظهير وتسويق صورته كرجل أعمال ناجح أولاً، ثم لخدمة مشروعه السياسي الذي قام على أنقاض المنظومة التي حكمت إيطاليا منذ نهاية الحرب العالمية الثانية. وكان لهذه الشبكة دور أساسي أيضاً في صموده أمام سلسلة الفضائح المالية والسياسية والاجتماعية التي تحاصره منذ أكثر من عشرين سنة، والتي كانت تكفي واحدة منها لوأد المسيرة السياسية لأي زعيم أو مسؤول في دول المحيط الأوروبي.
منذ انطلاقتها في ثمانينات القرن الماضي كانت قنوات برلوسكوني التلفزيونية تركّز على البرامج الترفيهية والمسلسلات والأفلام، مقابل البرامج التربوية والإخبارية التي كانت تبثّها القنوات الثلاث للتلفزيون الرسمي الإيطالي. واتبّعت «ميدياست» نفس الصيغة في البلدان التي انتشرت فيها لاحقاً، خصوصاً في إسبانيا حيث تتصدّر منذ سنوات ترتيب القنوات التلفزيونية الأوسع انتشاراً.
وتفيد دراسة وضعها عدد من الباحثين في علم الاجتماع السياسي من جامعة بوسطن الأميركية أن «التجربة البرلوسكونية كانت رائدة في مسار ظهور الحركات الشعبوية لاحقاً في إيطاليا وأوروبا، وصولاً إلى انتخاب دونالد ترمب رئيساً للولايات المتحدة». ويقول البروفسور بنجامين أولكين الذي شارك في تلك الدراسة: «إن البرامج التلفزيونية التي لا تتناول المواضيع السياسية مباشرةً لها تأثير على السياسة، إذ تبيّن أن الإقبال على مشاهدة التلفزيون يترافق عادةً مع الانكفاء عن النشاط المدني والسياسي أو المشاركة الهامشية فيه». وجاء في تحقيق نشرته أخيراً صحيفة الـ«واشنطن بوست» عن صعود الحركات الشعبوية في أوروبا «أن البرامج التلفزيونية التي تبثّها قنوات برلوسكوني جعلت الأطفال والشباب الإيطاليين أكثر خمولاً على الصعيد الفكري ومهّدت للموجة الشعبوية التي تجتاح إيطاليا».
هذا، ولقد حاول برلوسكوني خلال المراحل الثلاث التي تولّى فيها رئاسة الحكومة الإيطالية توجيه سياسة قنوات التلفزيون الرسمي بتعيين مقرّبين منه في إداراتها، لكنه اصطدم بمقاومة شديدة من نقابة الصحافة التلفزيونية النشطة جداً في إيطاليا. كذلك حاولت القوى السياسية اليسارية استصدار قوانين في البرلمان تمنع أصحاب وسائل الإعلام من ممارسة السياسة وتولّي المناصب الحكومية، لكنها فشلت بسبب المعارضة الشديدة التي واجهتها من القوى اليمينية المؤيدة لبرلوسكوني.
وفي عام 2016 تملّكت المجموعة الفرنسية القابضة «فيفندي» 28.8% من رأسمال «ميدياست» التابعة لمجموعة «فينينفست» التي تملكها عائلة برلوسكوني، فبادرت «ميدياست» إلى الطعن في الخطوة التي تمّت ضد رغبتها أمام الهيئة الإيطالية الناظمة لقطاع الاتصالات، بحجة أن الخطوة تشكّل انتهاكاً لمبدأ التعددية الإعلامية الذي تصونه القوانين الإيطالية. مع العلم أن «فيفندي» تملك 24% من أسهم شركة الاتصالات الرئيسية في إيطاليا «تيم». وحقاً، وبعدما حكمت الهيئة الناظمة بأن «فيفندي» قد انتهكت القوانين الإيطالية بشرائها الحصة من «ميدياست»، لجأت المجموعة الفرنسية إلى محكمة العدل الأوروبية التي قضت مطلع هذا الشهر بأن قرار الهيئة الناظمة الإيطالية يتعارض مع القانون الأوروبي، فاتحةً بذلك الباب أمام خروج إمبراطورية برلوسكوني الإعلامية من الأيادي الإيطالية نهائياً.
«غلوبو» البرازيلية
ومن المجموعات الإعلامية الضخمة الأخرى «غلوبو» البرازيلية، التي تعد من كبرى الشركات العالمية في مجال الاتصالات من حيث كمية الإنتاج وعدد العاملين الذي يقارب عشرين ألفاً في البرازيل وجميع أنحاء العالم وتملك وتدير شبكة القنوات التلفزيونية والإذاعية وتوزيع المواد الترفيهية التي تغطّي 190 بلداً.
أُسست القناة الأولى في شبكة «غلوبو» عام 1965 بفضل مساعدة مالية من شركة «تايم - لايف» الأميركية عدّها البرلمان يومذاك غير قانونية لعدم جواز مشاركة جهات أجنبية في قطاع الإعلام البرازيلي. لكن في العام التالي طوت الحكومة العسكرية ملف القضية بعدما ساعدت «غلوبو» في الحصول على قرض مصرفي وشراء حصة الشركة الأميركية.
تتمتّع مجموعة «غلوبو» بنفوذ شاسع في البرازيل، لم تؤثر فيه عودة البلاد إلى الديمقراطية بعد النظام الديكتاتوري الذي كانت تدافع عنه الشبكة التي كانت في الوقت الذي توظّف العديد من الصحافيين والفنانين اليساريين. وخلال العقدين المنصرمين تعاظم دور المجموعة، خصوصاً عبر قنواتها التلفزيونية والصحف الرئيسية التي تملكها، بفضل التغطية الواسعة كونها الوحيدة التي تصل إلى جميع أقاصي البلاد المترامية. وكان لقناتها التلفزيونية الرئيسية دوراً فاعلاً جداً في كشف قضية الفساد الشهيرة «لافا جاتو» التي ما زالت ترخي بثقلها على الحياة السياسية البرازيلية إلى اليوم، مع تشعّبات واسعة ورفيعة المستوى في المحيط الأميركي اللاتيني، إضافة إلى دورها الأساسي في حشد التأييد لحركة عزل الرئيسة السابقة ديلما روسّيف، وبثّ التسجيلات غير القانونية لمحادثاتها مع الرئيس الأسبق لويس إغناسيو لولا.
واللافت أن مجموعة «غلوبو» التي تُكال إليها الاتهامات بتأييدها القوى اليمينية والليبرالية، وغالباً ما توصف بأنها «انقلابية» لدعمها المكشوف للنظام العسكري الذي حكم البرازيل 21 سنة، تتعرّض منذ فترة لحملة معاكسة من أنصار الرئيس جاير بولسونارو الذي اتهمها أخيراً بأنها «شيوعية»، بعدما كشفت الصحف الرئيسية التابعة لها فضائح فساد تتعلّق باثنين من أبنائه ومحاولته التدخل في التحقيقات الجارية حولها.
وتجدر الإشارة إلى أن حملة بولسونارو الانتخابية التي أوصلته إلى الرئاسة تمّت خارج الإطار التقليدي لوسائل الإعلام، وفي طليعتها شبكة «غلوبو»، واقتصرت على وسائط التواصل الاجتماعي المباشر التي يرى فيها المراقبون تهديداً مباشراً لهيمنة الشبكة على المشهد الإعلامي ونفوذها السياسي والاجتماعي الواسع. وكانت البوادر الأولى لاهتزاز هذه الهيمنة قد ظهرت منذ عامين عندما فشلت «غلوبو» في حملتها المركّزة لعزل الرئيس السابق ميشال تامر أو إجباره على الاستقالة بعد فضائح الفساد التي كشفتها عنه، ما دفع أحد المعلّقين إلى القول: «إن نفوذ (غلوبو) كبير جداً، لكنها لا تقدر على كل شيء».
ويقود المعركة الحالية ضد «غلوبو» تيّار الحركات الإنجيلية (اليمينية المتطرفة) التي تشكّل الدعامة الرئيسية لبولسونارو، والتي ازداد نفوذها منذ نهاية القرن الماضي بفضل أنشطتها شديدة التنظيم والتي تعتمد على موارد مالية ضخمة. إذ ارتفعت نسبة أتباع الكنيسة الإنجيلية في البرازيل من 8% مطلع العقد الأخير من القرن الماضي إلى 28% حالياً.
وتشنّ هذه الحركات حملتها ضد «غلوبو» مركّزة على مسلسلاتها واسعة الانتشار لاعتبارها «غير أخلاقية»، وتتهمها بأن خطّها السياسي المحافظ يخفي وراءه «مضموناً ثقافياً شيوعياً»، في إشارة إلى الواجهة الليبرالية لبرامجها السياسية والمواضيع التقدمية التي تعالجها في معظم مسلسلاتها التي تشكّل أساس شعبيتها الواسعة.
وتجدر الإشارة إلى أن بولسونارو كان قد شنّ هجوماً عنيفاً على «غلوبو» أواخر العام الماضي خلال زيارته إلى المملكة العربية السعودية في ختام جولته على الصين والشرق الأوسط، عندما بلغه في ساعة متأخرة من الليل أن صحيفة «فوليا دو ساوباولو»، وهي كبرى الصحف البرازيلية -وتملكها «غلوبو»- نشرت تحقيقاً يشير إلى احتمال تورّطه في اغتيال صحافية يسارية منذ عامين. فسارع إلى نشر تسجيل على الفيديو يصف فيه التحقيق بـ«العمل الصحافي القذر»، ويهدّد المجموعة بعرقلة تجديد رخصتها بعد عامين بقوله: «من الأفضل لكم ألا أكون في عداد الأحياء عندما يحين موعد تجديد الرخصة».
قد يهمك ايضاً :
انتهاء الموسم الأول من "القاهرة الآن" للميس الحديدي
الإعلامية لميس الحديدي تنتقد الممثّل محمد رمضان وتؤكّد أنه ليس "نمبر وان"