باريس - هدى زيدان
تنتصب في ساحة "كونكورد" في باريس، منذ 178 عاماً، مسلة مصرية تشمخ وسط الساحة التي تبدأ من عندها جادة "الشانزلزيه" وتنتهي عند قوس النصر، حيث تستوقف كل سائح عربي وخصوصاً المصري لمشاهدة عظمة تاريخ بلاده
.
هذه المسلة الطارئة على الساحة الباريسية الشهيرة، لها حكاية طويلة تبدأ من نقلها، بحرا ونهرا وبرا، من معابد الأقصر، مدينة الشمس في صعيد مصر إلى مدينة النور في فرنسا. هي ملحمة استثنائية ومثيرة تستعاد، حاليا، في معرض يقام في متحف البحرية في باريس ويستمر حتى السادس من يوليو/ تموز المقبل. وحسب دليل المعرض فإن هذه الحكاية لا تضم في ثناياها جوانب من العلاقات الدبلوماسية الوطيدة بين الدول فحسب، بل الكثير من العبقرية وعرق العمال ودمائهم أيضا، أولئك الذين نجحوا في نقل 230 طنا من وحدة متراصة من الغرانيت، بطول 23 مترا، بين قارتين يفصلهما بحر. وكتب كريستوف لوفان، المحرر في مجلة "الباريزيان" يقول أن المعرض الفريد من نوعه يصلح فيلما من أفلام المغامرات الكبرى التي كانت شركة "بارامونت" الأميركية تنتجها في خمسينات القرن الماضي. فقد أعاد المشرفون عليه تمثيل مراحل نقل المسلة بكل وسائل الإيضاح الحديثة المتاحة، كالصور والأفلام والوثائق المكتوبة واللوحات الفنية والمخططات والخرائط القديمة. أما اختيار مكان المعرض فيأتي من أن مهمة نقل الأثر المصري أوكلت، في حينها، أي في عام 1829، إلى وزارة البحرية الفرنسية واستغرقت 7 سنوات وجرت على 4 مراحل.
الحكاية المذكورة تبدأ مع حملة نابليون على مصر، في القرن التاسع عشر، اجتاحت أوروبا موجة من الشغف بالتاريخ الفرعوني وراحت الرسوم التي تصور الأهرام تتنقل في الصالونات مثل الموضة الجديدة. وكان والي مصر محمد علي يسعى لتحديث البنى التحتية ويتقرب من فرنسا وبريطانيا أملا في الحصول على الخبرات التي تعينه في مهمته. وفي هذا السياق، عرض على باريس ولندن هدايا دبلوماسية تتمثل في مسلات قديمة. وقد كان من المقرر أن تحصل مصر على مسلة موجودة في الإسكندرية. لكن شامبليون، الآثاري الفرنسي الذي فك أسرار الكتابات الهيروغليفية، زار الأقصر ووقع أسير سحر المسلتين المنصوبتين عند مدخل المعبد هناك.
وقد جند الفرنسيون جهودهم للحصول على تلك التحفتين، رغم أن بريطانيا كانت موعودة بهما مسبقا. ولتحقيق أُمنيته، أوحى عالم الآثار للوالي بإعطاء لندن مسلة الكرنك، باعتبارها الأكبر والأجمل، الأمر الذي أسعد البريطانيين دون أن يخطر ببالهم أن نقلها إلى بلادهم يكاد يكون شبه مستحيل. وهكذا ظلت تلك المسلة في موطنها ولم تغادر مصر.
وشمّر الفرنسيون عن أذرعهم لنقل مسلتهم إلى باريس وعهدوا بالإشراف على العملية إلى مهندس البحرية جان باتيست أبولينير لوبا. وهو قد بدأ ببناء سفينة قادرة على حملها، رغم أن الأمر بدا متعسرا ومحاذير الخبراء كثيرة. ويشرح دليل المعرض تلك الخطوة بأن قوة دفع السفينة أو حجمها لم يكونا العقبة الأولى بل إمكانية أن تمخر عباب النيل، ثم البحر الأبيض المتوسط، ثم نهر السين.
تم بناء السفينة "الأقصر" في ورشة البحرية الفرنسية وغادرت ميناء طولون، جنوب البلاد، في ربيع 1831 مع طاقمها المؤلف من 121 رجلا، متجهة إلى مصر حيث وصلت إلى الكرنك في صيف العام نفسه، بعد أن قطعت نهر النيل. وكان في انتظار الطاقم، ومئات العمال المصريين، عمل كبير يتمثل في تحميل المسلة من دون تعريضها للكسر. وقد تم حفر فجوة في الرمال لاحتضان السفينة وكذلك طريق للسحب بطول 400 متر. وبذل المصريون العرق والدماء في سبيل رفع الأثر الحجري من مكانه وتغليفه بالخشب لحمايته من الصدمات. وقد تطلب الأمر هدم الكثير من المنازل التي كانت ملاصقة للمعبد. ثم استمرت العملية الضخمة باستخدام الحبال والمنزلقات والسكك التي ساعدت في تحريك المسلة نحو وجهتها، دون أن يخلو الأمر من مشكلات. ففي ذلك الخريف تعاون أكثر من 200 رجل لتحقيق المهمة لكن الحبال كانت تتقطع، تاركة المسلة تتهاوى ببطء، دون أن تتضرر. وقد استغرق الأمر شهرا لإتمام النقل نحو السفينة التي جرى قطع مقدمتها بمنشار الحديد لكي تستوعب المنحوتة الضخمة.
في يوم عيد الميلاد كانت السفينة "الأقصر" جاهزة للإبحار بحمولتها الثمينة من جنوب مصر. وقد اعتبر الفرنسيون أن تلك المسلة هي أروع هدية يمكن تلقيها في العيد. لكن مياه النيل كانت في أوطأ مناسيبها ولا بد من انتظار الفيض مع اقتراب الصيف. وخلال تلك الفترة، أُصيب نصف طاقم السفينة بداء الزحار المعدي الذي أودى بحياة 3 بحارة.
وفي يونيو/ حزيران بدأ الإبحار الذي لاقى صعوبات كثيرة، رغم تجنيد رجال البحرية المصرية للمهمة، وجيء بمراس إضافية لكي تحول دون غرق الناقلة فتتمكن من التقدم. ثم تعرقل السير مجددا بسبب عارض رملي في النيل، ثم عاصفة أربكت البحارة، لحين وصول الشحنة إلى الإسكندرية بعد 3 أشهر. وهناك كانت الساحبة البخارية «سفنكس» في انتظار السفينة لجرها إلى البحر في رحلة صعبة لحين وصولها إلى مرفأ طولون الجنوبي على المتوسط، ومنه الالتفاف نحو ميناء شيربور، شمال غربي فرنسا.
الإبحار في نهر السين لم يكن أقل تعقيدا من النيل. وجيء بكتيبة من الخيول لإيصالها إلى جسر الكونكورد، وسط باريس، حيث رست السفينة في 23 ديسمبر/كانون الأول 1833، أي بعد سنتين و9 أشهر من إبحارها من طولون.
وفي الاستقبال، السياسيون والعلماء والصحافيون الذين اشتد الجدل بينهم حول المكان الأنسب لوضع المسلة المصرية. في ساحة "الأنفاليد" قرب المتحف العسكري؟ أم في ساحة "الباستيل"؟ لكن الملك لويس فيليب قرر أن تنصب في "الكونكورد"، الساحة التي شهدت إعدام لويس السادس عشر وماري أنطوانيت بالمقصلة بعد الثورة الفرنسية، لعل الحدث الثقافي يغسلها من الدماء. وفي يوم نصب المسلة تجمع أكثر من 200 ألف باريسي لمشاهدة الحدث والاحتفال به. هذا مع العلم أن عدد سكان العاصمة آنذاك كان دون المليون.