مدينة شفشاون المغربية
الرباط ـ جودي صباح
تشد السياح عشرات المدن الاثرية المنتشرة في الشمال المغربي للتعرف الى طبيعتها الخلابة عن كثب وتاريخها الذي يعود الى القرن الرابع عشر ، ومنها ما هو محاط بالاسوار الشاهقة والابراج العالية ومنها ما يطغى عليه الجنائن المعلقة .
مدينة شفشاون او "القرنين" باللهجة الأمازيغية، يطغى علىها الهدوء والرونق البسيط، ما يجعل الزائر مشدوها لتفاصيلها المعمارية الفنية، ومبهورا بسحر جبالها المتناقضة، إذ تصطف التضاريس الوعرة بالقرب من الانحدارات المفاجئة، وتتناغم الأودية المنخفضة مع الانكسارات الحادة، التي تزين الطبيعة الخلابة لشمال المغرب. وسواء أكان الزائر مغربيا أو سائحا أجنبيا، فلن يتمكن من إخفاء دهشته أمام المآثر التاريخية، التي تزخر بها المدينة الجبلية، وفي خلال يومين أو ثلاثة، يمكنه اكتشاف تفاصيل المدينة الزرقاء الحالمة.
شخصيات تاريخية بصمت الحاضر
لن تحتاج وقتا طويلا لزيارة مرقد مولاي علي ، فهو موجود وسط المدينة وتحديدا في شارع الحسن الثاني، وكان بن راشد من أسس المدينة سنة 1471 م لإيقاف الزحف البرتغالي على المنطقة، وإيواء مسلمي الأندلس بعدما طردهم الإسبان، إذ كانت الحاضرة آنذاك بمثابة قلعة للمجاهدين ضد الاستعمار. كما عرفت وصول الفاتحين العرب كموسى بن نصير، الذي بنى مسجدا له بقبيلة بني حسان شمال غربها، وطارق بن زياد الذي لا يزال أحد المساجد بقرية الشرفات يحمل اسمه.
"القصبة" أكبر المآثر التاريخية
إن كنت من عشاق المآثر التاريخية، فالمدينة العتيقة تحتضن مجموعة مهمة من المباني القديمة، التي تعكس إلى حد كبير الطابع الحضاري الذي تكتسيه المنطقة، أهمها القصبة، أكبر مبنى أثري، وضع حجارته الأولى الأمير أبو الحسن علي بن راشد، فأوطنها بأهله وعشيرته، واتخذها مقرا لقيادته وثكنته العسكرية لمحاربة البرتغاليين. وتقع في الجزء الغربي للمدينة، وتحاط بسور تتوسطه عشرة أبراج وبرج ضخم يدعى البرتغالي، وتجسد طريقة بنائها النمط الأندلسي في العمارة. ويضم الفناء الداخلي للقصبة حديقة كبيرة تذكرنا بالحدائق المعلقة البابلية، مزينة بحوضين كبيرين، في حين يحتل المتحف الإثنوغرافي الجزء الشمالي للقصبة، ويزخر بعشرات اللوحات الفنية والصور التاريخية لنساء ورجال وأطفال يعودون للقرن الثاني عشر، بلباسهم التقليدي الأصيل، الذي يعيد الزائر إلى القرون الوسطى. يضم المتحف أيضا، بعض الخزائن المعلقة التي تعرض ملابس عتيقة خاصة بحفل الزواج، وأخرى بالحرب، إضافة إلى عرض مجموعة متنوعة من الأسلحة التي كانت تعتمد في الجهاد ضد المستعمر، من دون إغفال المعدات المنزلية البدائية المصنوعة من الخشب والحديد. المبنى يتخذ تصميم المنازل التقليدية المغربية، التي تضم ساحة داخلية من دون سقف، تتوسطها نافورة مائية كبيرة، لتلفها أروقة عديدة وغرف شاسعة جدا، أبوابها ضخمة يصعب على الشخص تحريكها.
وأكثر ما يثير انتباه وإعجاب الزوار هو باحة السجن المظلمة، والمليئة بالأصفاد الحديد الضخمة، لذا وجب على السائح معاينة جميع مرافق القصبة حتى لا يفوت عليه فرصة اكتشاف الإسطبل الخاص بالجياد وحضيرة البهائم، ورواق السيدة الحرة للعروض الفنية، بالإضافة إلى مسرح الهواء الطلق، ومركز للأبحاث والدراسات الأندلسية.
أحياء المدينة العتيقة
إذا زرت شفشاون فلا تنسى التنزه في حي "السويقة"، ثاني أقدم تجمع سكني بني بعد القصبة، وسمي بهذا الاسم لوجود محلات تجارية تقليدية بنيت في أواخر القرن الخامس عشر، كما يضم أهم وأقدم البيوت البسيطة، المكسوة بالأبيض والأزرق السماوي، ما يضفي على شكل أزقتها مزيدا من الرحابة رغم ضيقها، كما أن النافورة الحائطية، التي تحتل مدخل دروب الحي، تعد من أجمل النافورات في المنطقة، نظرا للزخرفة التي تزين واجهتها.
حي الأندلس والعنصر
ولمزيد من التغيير، تقترح مدينة شفشاون نوعا آخر من الأحياء، وهو حي الأندلس، الذي بني من أجل إيواء الفوج الثاني من المهاجرين الأندلسيين، الذين قدموا إلى المدينة سنة 1492م، ورغم تشابهه الكبير مع حي "السويقة" من حيث التصميم، إلا أنه مختلف عنه فيما يخص طبوغرافية الموضع، التي أجبرت ساكنيه على بناء منازل من طبقتين أو ثلاث، مع وجود أكثر من مدخل للمنزل. ولا ننسى ذكر حي العنصر، الذي يعد بابه حدا شماليا لسور المدينة، حيث عرف عدة إصلاحات في بنائه، سيرا مع التوسع العمراني للمدينة، وما يميزه هو برج المراقبة الواقع وسط السور، إذ يذكرنا في عمارته بأبراج غرناطة.
منبع "رأس الماء" سر الماء الدائم
لا يمكن زيارة مدينة شفشاون دون المرور بمنبع رأس الماء، لأنه أساس بناء الحاضرة. لذا فأول طريق وجب اتخاذها هي تلك المؤدية لـ"راس الما" كما يناديها أبناء شفشاون، حيث يقع حي "الصبانين"، الذي يضم مجموعة من الطواحين التقليدية المستعملة سابقا لطحن الزيتون. كما يعد المزود الوحيد للمدينة بالمياه الصالحة للشرب والزراعة كذلك. ولعل ما ميز مدينة شفشاون عن باقي المدن الأخرى، هو وجود "الرحى" أي الطاحونة المائية، بفضل الثروة الحية المتجسدة في منبع رأس الماء، إذ تحرك قوة المياه الناتجة عن الانحدار الشديد للمنبع، أحجار 21 طاحونة خاصة بالدقيق.
الطبيعة العذراء لشفشاون
أما لعشاق المناظر الجبلية، فتقترح عليهم طبيعة شفشاون، منطقة "أقشور" السياحية، المليئة بالتضاريس المتناقضة، من تلال مرتفعة وسهول منخفضة وهضاب متراصة بالقرب من شلالات عظيمة، تصب في نهر ذو لون فيروزي يسر الناظرين. بالإضافة إلى قنطرة طبيعية تدعى قنطرة "سيدي ربي" تظهر بجلاء الطبيعة العذراء الكامنة في عمق الريف الغربي.
والوصول الى منطقة "أقشور" الغابوية ليس صعبا، فهي تبعد عن المدينة بـ 20 كيلومترا تقريبا، ويحج إليها العديد من السياح يوميا، الذين يجدون ما طاب لهم هناك، من أكواخ وسط الجبال، ومرشدين سياحيين يجوبون بهم الجبال ويقطعون معهم الأنهار.
ساحة وطاء الحمام
وطاء الحمام أو "وطا حمام" كما يلقبها أبناء المنطقة، هي ساحة عمومية بالمدينة العتيقة تصل مساحتها الى 3000م، وتعد قطب المدينة التاريخي والسياحي، باعتبار ان كل الطرق تؤدي إليها. صممت في البداية لتكون مقرا لسوق أسبوعي، يؤمه سكان الضواحي والمدينة، لتتغير وظيفتها في ما بعد وتصبح ساحة سياحية بامتياز، إذ عوضت المقاهي والمطاعم التي تقدم أشهى المأكولات المحلية مكان دكاكين البيع، وزينت الساحة بنافورة مياه جميلة يقابلها المسجد الأعظم والقصبة، حيث تقام المهرجانات المحلية.
المسجد الأعظم
يقع المسجد الأعظم في الجهة الغربية للقصبة، ويضم جميع المرافق المعمارية من صومعة وساحة داخلية مفتوحة تتوسطها نافورة، وقاعة للصلاة ومدرسة لتعليم القرآن، إلا أنه يخلو من الزخرفة، ماعدا في مدخله الرئيسي والصومعة ذات ثمانية أضلاع.
بعض فنادق شفشاون
فندق "بارادور"، أشهر الفنادق بمدينة شفشاون، إذ يطل مباشرة على ساحة "وطا حمام" حيث المحلات التجارية الصغيرة، تزهو بألوان الجلابيب الشفشاونية، ويبعد عن محطة المسافرين ببضعة أمتار، بالإضافة إلى قربه من المدينة العتيقة. أما فندق "مدريد"، فلا يبعد كثيرا عن الفندق الأول، ويتميز بتصميمه الراقي، الذي يذكرنا بالبناء الفرنسي في عصر الأنوار.
وعلى العموم، تتميز الفنادق العتيقة بالمدينة بشكلها البسيط، ففي طابقها السفلي تتوزع الحجرات الصغيرة على دائرة الفناء الداخلي، وتدعم الأروقة أعمدة وسط الفندق، وهي الفكرة نفسها التي تمتاز بها البيوت المغربية، إذ يجري ربط الخاص بالعام مع الدعم بالأقواس.