سلام الربضي*
تتحول بعض التصورات والأفكار إلى ثوابت في الأذهان والأفعال، وكأنها "قوالب مقدسة"، ويظل الكثير من النخب والقادة، ينتهجون ويلتزمون الثوابت ذاتها، والتي لم تعد تواكب التطورات الحاصلة بأي شكل من الأشكال، وفي ظل هذا الوضع، تزدهر في سماء المنطقة الكثير من خطابات سياسية، لا تتضمن التوصيفات المتعددة في العلوم السياسية، القدرة على الإحاطة بها، من شعوبية جديدة ودوغمائية ما بعد عصر الحداثة، وسواها من تلك التوصيفات، التي تم تخصيصها لوصف سلوكيات سياسية بدائية، سادت وانتشرت في أزمنة أولى من ممارسة السياسة والتعاطي معها بوصفها ترويضًا للمجتمعات الإنسانية، وليس باعتبارها، فن الممكن، وفن إدارة الأزمات والمجتمعات، للوصول إلى أفضل النتائج التي تؤمن حياة البشر. وتكمن الإشكالية في التوظيف السياسي البشع للأحداث من قبل بعض الأنظمة، وبعض ما يُسمى بـ"الثورات العربية المعاصرة" التي تعرف تمامًا أنها لا تخسر شيئًا من الامتيازات التي حصلت عليها في بلدانها، ولن تترتب عليها أي التزامات، تمهيدًا للابتزاز السياسي في لعبة السلطة، ودائمًا بتحريض وتشجيع من الخارج، وأيضًا من البديهي، أن يتم استخدام المالي السياسي الخارجي الآتي باسم التنمية والإعمار في هذا المضمار، وبخاصة أن مقدميه هدفهم نصرة طرف على طرف آخر، بحيث يصبح المال السياسي الآتي تحت شعار التنمية والإعمار، سببًا لمزيد من الانقسامات التي تأخذ إلى الفتنة، حيث يستخدم المال السياسي لزيادة مساحة الشقاق بين مكونات المجتمع وتحديدًا السياسية منها، فيجب علينا معرفة هذا النسق الجديد في تحديد ووصف طبيعة العلاقات العربيّة الإستراتيجيّة الدّاخليّة والخارجيّة، وهو عبارة عن المظهر السّياسي، المراد منه تحويل الأنظار نحو تقسيم الدّول العربيّة من جهة في ما بينها، ومن جهة أخرى في وضعها في حالة صراع مع قوى إقليمية، لكن الأهمّ من ذلك هو إدراكنا بالعمق لهذا الواقع، واستيعاب عمق التحدّي، والتحلي بالرّؤية الإستراتيجيّة الكفيلة بدرء المخاطر والتحدّيات عن أوطاننا والمجتمعات من نخب ثقافيّة، فكريّة، سياسيّة، اقتصاديّة واجتماعيّة . فمثلاً مشروع "الشرق الأوسط الكبير" سيكون لزمن غير قصير، وسيبقى الخيار الثقافي الدّولي الذي ترغب الدّول الكبرى في جعله برنامج عمل وتنفيذ لدول المنطقة على الرغم، من كل تلك التغيرات والثورات في المنطقة العربية، وهو المشروع الذي سيصبح ضرورة دوليّة، سياسيّة، ثقافيّة، اجتماعيّة، اقتصاديّة وأمنيّة بامتياز في المنطقة الأكثر اشتعالاً في العالم، للالتفاف على التغيرات المجتمعية النسبية الإيجابية، وكل ما يليها مستقبلاً، وبالتالي، تكتسب القدرة على التكيف الخلاق مع الموجات التاريخية أهمية قصوى، باعتبارها إحدى المهارات الأساسية للثقافة السياسية، وبخاصة في لحظات الانتقال السريعة في منطقتنا العربية الحالية، التي يغلب فيها على الحركة الدولية قدرًا هائلاً من التغير والدينامكية، إذ تبدو أدق الحسابات السياسية عاجزة عن التواؤم الكامل، مع هذه المتغيرات وحركتها الدافقة، بما يجعلها في حاجة دائمة لإعادة النظر، من أجل التكيف المرن والخلاق معها، وهو ما يقاس بدقة الاستشعار وعمق القراءة، ومن ثم حسن التوجه وسرعته أيضًا، وإزاء ما يعتبر موجات تاريخية أو تحولات سياسية، على النحو الذي يعظم من الفرص التي تتيحها هذه التحولات، ويقلص من مخاطرها لتأتي محصلة عوائدها وتكلفتها إيجابية، فممارسة ذلك النمط من السياسة هو ما يمكن أن يطلق عليه مفهوم السياسة السهلة، بمعنى السياسة التي تفتقد للخيال القادر على إيجاد الحلول الممكنة للمشكلات التي تعاني منها مجتمعاتنا، فضلاً عن الإرادة التي تحول هذا الخيال إلى مشاريع ورؤى وتصورات، وفق تعاطي منهجي مستمر، وصولاً إلى التكييف العملي والعلمي لتلك المناهج، مع واقع الإمكانات المتاحة وواقع البيئة المحلية والدولية . ومنبع التناقضات جميعًا، هو هذه الغرابة الجوهرية والجذرية في أنساق قد يرغب في فرضها على روحية المجتمعات التي فرضت فيه وعليه غصبًا، فلا تستطيع أن تكون آمنة، الأمر الذي يعمق غربتها ويعزز استحالة القبول بها، ولا يؤثر العنف الذي قد تتصف به يومًا ما، باللاتناسب إلا على أن اللاتناسب هو جوهر هذا النسق، وببساطة هذه الانساق غير مناسبة ومتناسبة في المنطقة، وهذا أمر غير قابل للتقادم ولا المحو، لا بالقوة ولا بمزيد من القوة، لا بالجنون ولا بالعقل، لأن المفاهيم باتت مضطربة من فرط سوء استخدامها بلا تحديد ولا تدقيق، ووفق وظيفة تنتمي إلى التفخيم اللفظي أكثر مما تهجس بالمضمون، تهربًا ربما من الفراغ السياسي الذي يقف أمامه جميع الفاعلين "إلى أي تيار انتموا" فتصبح في أفضل الأحوال أدوات لحاجة صماء، لذلك قد يكون تعبير "تاريخي" في وصف المنعطف الذي نقف أمامه يصبح محرجًا، ولكن النظر إلى المشهد برمته يفرض مثل هذا التوصيف. *باحث أردني في العلاقات الدولية