لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

 عمان اليوم -

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً

فاطمة ناعوت
بقلم : فاطمة ناعوت

لكي تعرف ما هي «الزهرة»، عليك أن تصبح أنت ذاتُك «زهرة»، لكى تعيشَ حياتَها وتشعر بما تشعر. لابد أن تتفتّح كزهرة. تبتهج لنور الشمس، وترقص مع هطول المطر وتُخرج البراعمَ من نسيجك، وحين يحدث كل ما سبق، سوف تسمعُ الزهورَ تكلمك وتحكى لك أسرارها. هكذا تعلمك فلسفة «زِّن» إذا أردتَ أن تناقش أو تحكم على أي موضوع. عليك أن تدخل الموضوع لتراه من الداخل وتشعر بها كما يشعر هو بذاته. وفلسفة «زِن» تعنى التأمل العميق، نشأت في الهند وانتشرت في بلاد الشرق الأقصى حتى وصلت إلى اليابان. وهى تدعو إلى «الوعى بالذات»، والغوص داخل النفس والنفور من كل ما حولنا من عوالم خارجية وشهوات.

في مقالى السابق، يوم الخميس، أخبرتكم عن أول كتاب قرأته في طفولتى وكانت رواية: «أحدب نوتردام» للفرنسى «فيكتور أوجو»، ووعدتكم بالحديث عن آخر ما قرأتُ من كتب، والأدق «أحدث» ما قرأتُ، وهو: «التصوّف البوذى والتحليل النفسى»، تأليف «د. ت. سوزوكى» وترجمة د. «ثائر ديب». يحاول الكتابُ البحث عن خيوط تربط بين منظومتين إنسانيتين تبدوان متنافرتين ليس بينهما إلا تناقضات. بوذية «زِنْ» التي هبطت على العقل الشرقىّ الميّال إلى التأمل والتجريد الروحانى، كما يليق بالعقلية الهندية والصينية، في مقابل: «التحليل النفسى» الذي هو نتاج تزاوج العقلانية الإنسانية الغربية، مع رومانسية القرن التاسع عشر الأوروبى، والذى تمتد جذوره الأولى إلى الحكمة الإغريقية في بحثها عن ماهية الإنسان والقوى الغامضة التي تُسيّره.

وبينما ينهجُ «التحليلُ النفسى» النهجَ العلمى العقلانى، تنحو بوذية «زن» المنحى الوجودىّ الروحىّ حتى لتقترب في تعريفها من فلسفة «التصوف الدينى» بوصفها محاولة الوصول إلى الذات العيا عبر مرحلة «الاستنارة». وبينما يسعى «التحليل النفسى» إلى استخلاص الإنسان من أمراضه الذهنية، فإن «البوذية» تتوقُ إلى الخلاص الروحى للإنسان. بين ركام كل تلك التباينات الجوهرية بين المنظومتين، هل يمكن السعى وراء أي روابط بينهما؟ هذا الكتابُ إذن هو محاولة عقد «مقارنة حذرة» بين منظومتين تبدوان، ظاهريًّا، متضادتين، حتى وإن ظلَّ «الإنسانُ» وسلامتُه الذهنية والروحية هو شاغلَهما الأول.

والحقيقة أننى قبل الشروع في قراءة هذا الكتاب، كنتُ أقرأ في ديوان «أشعار زِّنْ»، Zen Poetry كان أهداه لى الشاعر الأمريكى، «سام هاميل»، المناهضُ لسياسات البيت الأبيض في الشرق الأوسط، حين التقينا في سويسرا عام ٢٠٠٧ في «مهرجان المتنبى الشعرى»، الذي يقيمه الشاعرُ العراقى «على الشلاه». وجوهر منظومة «زِن» عرّفه «سوزوكى» بأنه فنُّ تبصُّر المرء بطبيعة ماهيته، بوصفه دليلا ومرشدًا إلى طريق الرحلة من العبودية إلى الحرية عبر تحرير كلَّ الطاقات الخبيئة داخل كلِّ إنسان. تلك الطاقة تكون، في الأحوال العادية، محبوسةً ومشوَّهة، فلا تجد قناة أو متنفسًا لتفعيل نشاطها. وعلى هذا فإن غاية «زِنْ» هي إنقاذ الإنسان من الجنون والعجز. والحرية التي يعنيها الكتاب هي إفساح المجال للدوافع الخلاقة والخيِّرة، الكامنة أصلا في قلوبنا، بحيث يمكن لها أن تتحرك بحريّة. فنحن عميان تجاه حقيقة: ««ن في حوزتنا كلَّ القدرات والإمكانات الضرورية لجعلنا سعداء، يحبُّ واحدُنا الآخر». محورُ الكتاب هو التوجُّه الأخلاقى الذي يتقاسمه كلٌّ من «زِنْ» و«التحليل النفسى».

فلكى تتحقق غايات «زِنْ» لا بدَّ من التغلب على الجشع. جشعَ التملّك، جشع المجد، وجميع أشكال الجشع مثل الحسد والشهوة والأنانية. وهذا بالضبط ما يهدف إليه التحليل النفسى. فالجشع، في معجم التحليلى النفسى، ظاهرة مَرَضية، تظهر حين لا يكون المرءُ قد طوَّر قدراته وطاقاته المنتجة. ورغم أن التحليل النفسى ليس منظومة أخلاقية، وكذلك «زِنْ»، التي تتعالى غاياتُها على الغاية التي يضعها السلوك الأخلاقى هدفًا، إلا أن كلتا المنظومتين تفترضان أن يتماشى تحقيقُ غايتهما مع التحوُّل نحو الأخلاق القويمة، مثل: التغلب على الجشع، والقدرة على الحبِّ والإيثار والرحمة. «التحليل النفسى» و«زن»، لا يحققان للإنسان حياة فاضلة عن طريق «قمع الرغبة الشريرة»، بل يتوقعان أن تذوب الرغبةُ الشريرة وتتلاشى من تلقاء ذاتها تحت نور الوعى المتعاظم ودفئه. فلا يمكن الوصول إلى غاية «زِنْ» من دون التغلُّب على الطمع وتمجيد الذات والحماقة.

ولا يمكن تحقيق «ساتورى» Satori، أي «الاستنارة»، دون التواضع والمحبة والرحمة. وكذلك لا يمكن تحقيق غاية «التحليل النفسى» ما لم يحدث تحوُّل إيجابى في طباع الشخص وأخلاقه. فمَن يبلغ «الطور المُنتِج» لابد أن يكون قد كفَّ عن الجشع، وتغلَّب على شعوره بالعظَمة، وعلى أوهام القدرة الكاملة والمعرفة الكلِّية، فتراه متواضعًا، ينظر إلى نفسه كما هي عليه حقًّا. وإذن، فإن ما يرمى إليه كلٌّ من «زِنْ» و«التحليل النفسى» يتعالى على الأخلاق القويمة، إلا أنه من المستحيل تحقيقه ما لم يحدث التحوُّل الأخلاقى نحو الفضيلة.

omantoday

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً لكى تعرفَ الزهورَ كُن زهرةً



GMT 12:32 2023 السبت ,29 تموز / يوليو

ضفضة_مؤقتة

تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 18:33 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

المستشار الألماني يحذر الصين من توريد أسلحة إلى روسيا
 عمان اليوم - المستشار الألماني يحذر الصين من توريد أسلحة إلى روسيا

GMT 15:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس
 عمان اليوم - فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 18:47 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي
 عمان اليوم - شيرين رضا خارج السباق الرمضاني 2025 للعام الثالث علي التوالي

GMT 18:46 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 15:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab