بكر عويضة
عملية إرهابية واحدة ينجح مرتكبوها في بلوغ هدفهم، يمكن أن تلحق بالاقتصاد العالمي خسارة قد تبلغ خمسة عشر مليار دولار. أي شكل من الإرهاب هذا؟ صاروخ أرض - جو محمول يوجه من كتف إرهابي يعمل ضمن شبكة «القاعدة»، أو أحد فروعها، ليسقط طائرة ركاب مدنية فيمزقها إربا، وتتطاير أجزاء جثث مسافريها المحترقة مع شظاياها المتناثرة على أرض الجريمة.
هكذا هو الإرهاب، بلا عقل أو روح، بلا ملة أو دين، ناهيك أن يجد أي منطق سياسي يبرره. قتل الإنسان لأخيه الإنسان بلا أي مسوغ يجيزه، حصل منذ بدء الخليقة، وسيحصل طالما أن نوازع الخير، التي جبل عليها البشر، تصارع عوامل شر تجد طريقها للنفس الآدمية فتلحق بها من التشوه ما يحرفها عن الطريق السوي. هناك من تغلب فطرة الخير فيه أي غضب قد يزين فعل الشر. هذا نوع من الناس يحسن ما يعرف بإدارة الغضب (Anger Management) فيتحكم الغاضب بأعصابه، يلتقط أنفاسه، ولا يدع لحظة توتر مفاجئة تقرر مما قد يجلب له ولغيره من المآسي ما يوجب الندم، إنما بعد فوات الأوان. وهناك الاتجاه المعاكس، إذ يحكم الشر قبضته ولا يدع فرصة إفلات منه، فإذا هو ضمن المستوى الفردي طبع لا ينفع معه أي تطبع، وإذا هو على المستوى الجمعي - وهنا الخطر الأفظع - منهج يتحكم بمجموعة من الناس، سواء كانوا مكلفين حكم مجتمع، وهذا يوجب أن يكونوا خياره لا أشراره، أو أنهم مسؤولون على رأس حزب، تنظيم، منظمة، جماعة، تتعدد الأسماء والمضمون هو ذاته، فكلها جهات تزعم أنها تريد الأفضل لقضية أو وطن ما، أو قل للعالم كله، وهو ما يتطلب أن يكون أولئك المسؤولون أنفسهم، لو صحت مزاعمهم، أولى الناس بتدبر عواقب أي أمر قبل الإقدام عليه، فما بالك إن كان ذلك الأمر يعني إزهاق أرواح، هدم عمران، واحتمال إشعال نيران حروب؟
المعلومة أعلاه بشأن خسارة الخمسة عشر مليار دولار نتيجة إسقاط طائرة مدنية بصاروخ، منسوبة للجنرال ديفيد بيتريوس، الرئيس السابق لوكالة الاستخبارات المركزية الأميركية، وأوردها مايكل كراولي (Michael Crowley) في مجلة «تايم» هذا الأسبوع (العدد 21)، وذلك في سياق تحليل عن الجدل الدائر بشأن تردد إدارة الرئيس أوباما في الاستجابة لطلب السيد أحمد الجربا، رئيس الائتلاف السوري المعارض، خلال زيارته واشنطن مطلع الشهر الحالي، تزويد قواته بصواريخ دفاع جوي محمولة (Man - Portable Air Defense Systems).
ليس الغرض هنا أن أصطف مع فريق يؤيد طلب السيد الجربا، خصوصا بين بعض قيادات الكونغرس، أو أوافق الطرف المحذر، داخل البيت الأبيض، من مخاطر وقوع تلك الصواريخ بأيدي بعض الإرهابيين، إنما يمكن القول إن حفرة (HOLE) كتلك – كما سماها بيتريوس نفسه - في الاقتصاد العالمي، يمكن بالفعل أن تطلق شرارة اندلاع حرب مدمرة في المنطقة.
وهل هذه المنطقة من العالم بحاجة إلى تبرير لاشتعال مزيد من الحروب؟ كلا، بل إن رحاها دائرة منذ زمن، وتطالع الناس أخبارها كل لحظة، لكن حصرها ضمن دوائرها المحدودة هو الخطر الذي يكبر، واحتمال اتساع رقعة كل منها فتعبر حدودها وتجر أطرافا دولية لتنغمس فيها بتورط أوسع مما هو حاصل، هو أيضا احتمال يكبر خطره لحظة بعد أخرى.
ليس ضروريا استدعاء تفاصيل تاريخية. تطورات منطقة الشرق الأوسط منذ سقوط نظام شاه إيران وصعود ثورة الخميني، حتى جرائم 11 سبتمبر (أيلول) 2001 وصولا إلى خضات ما بعد ربيع 2011، واضحة، وفي غير مفصل من مفاصلها يمكن التوقف عند أسباب بدت للبعض، آنذاك هينة، لكنها كانت كافية لتحريك الأساطيل وانطلاق قاذفات القنابل. في هذا السياق، قد لا يلتفت سوى أهل الاختصاص لعامل السوق، وأهمية دوران عجلة مصانع السلاح، وما يعنيه الاقتصاد العالمي لصناع القرار الدولي.
البؤر المشتعلة في منطقة الشرق الأوسط ليست فقط قابلة لمزيد من الاشتعال، بل الأرجح أنها لن تنطفئ من دون حرب ضروس لا تضع أوزارها قبل أن تضع نهاية حاسمة لكل أسباب الإضرار بعوامل الأمن الدولي، وهو بدوره شرط أساس من شروط استقرار الاقتصاد العالمي، وذلك لن يتأتى من دون وضع خارطة جديدة للمنطقة. إلى ذلك، العوامل المهيئة لاحتمال حرب كتلك موجودة، ويمكن هنا ملاحظة بعضها. على سبيل المثال، للمراقب أن يتساءل عن الدور المحتمل لمصر ما بعد انتخاب المشير عبد الفتاح السيسي رئيسا، هل يمكن تصور أن يقف الجيش المصري مكتوف اليدين إذا اتسعت مواجهة اللواء خليفة حفتر للمنظمات الليبية المسلحة، وأدى ذلك التوسع إلى هروب بعض فلول تلك الجماعات إلى أراض مصرية؟ وفي الشأن المصري ذاته، ورغم ما تردد من تأكيد غير مسؤول في مصر وإثيوبيا لجهة الحرص على حل النزاع المائي سلميا، وأيضا دخول موسكو وبكين على خط الوساطة، لما للعاصمتين من مصالح مهمة في البلدين، يظل خطر اشتعال فتيل مواجهة عسكرية قائما، خصوصا إذا أصرت أديس أبابا على المضي قدما في خطط بناء سد النهضة من دون أي تعديل يأخذ مصالح مصر في الحسبان، وهكذا تطور، إن حصل، لن يكون السودان بمعزل عنه.
وفي الشأن الليبي، مرة أخرى، المنفتح على كل الاحتمالات، ومع الأخذ في الاعتبار تزايد تهريب السلاح من ليبيا إلى عدد من دول أفريقيا، يصعب تخيل اكتفاء كل من الجزائر وتونس والسودان بالمراقبة عن بعد، فمجرد تسلل عناصر ليبية مسلحة لأراضي أي من هذه الدول كاف لأن يشكل مبررا كي تجد نفسها طرفا في معركة لم تسعَ إليها. ثم، هل يمكن تصور أن المواجهات بين «القاعدة» والجيش اليمني ستبقى محصورة ضمن كر وفر، وهل يحتمل أمن المنطقة استمرار مسلسل كهذا بلا حسم نهائي؟ وهل ستكتفي إيران وتركيا من الوضع العراقي بمد الحلفاء بمال وعتاد، أليست هناك مغريات لوضع اليد على ما يتيسر من أرض بلد مفتوح لأطماع الطامعين؟ وأصل إلى سؤال الأسئلة كلها: هل يمكن رؤية تل أبيب تضع على الرف صداع قنبلة طهران النووية، قبل قصم الظهر الإيراني؟ وهل يمكن تصور أن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين سيدع ضربة إسرائيلية لإيران تمر وكأنها لا تعني روسيا، التي يسعى قيصرها الآتي من زمن مفاهيم «كي جي بي» بريجنيف لضخ دماء تجديد في أمصال نفوذها الدولي، ولو كان الثمن أن يسيل المزيد من الدم، ولعل أوكرانيا ليست سوى بداية البداية؟ ما أكثر شواهد المخاطر، وما أبعد تلك الأمنية الرومانسية القديمة، والجميلة: عالم بلا حروب!