«شهر رمضان» كيف أفقدناه معناه ومغزاه

«شهر رمضان».. كيف أفقدناه معناه ومغزاه؟

«شهر رمضان».. كيف أفقدناه معناه ومغزاه؟

 عمان اليوم -

«شهر رمضان» كيف أفقدناه معناه ومغزاه

عمار علي حسن

فارق كبير بين رمضان الذى ينطوى عليه النص الإسلامى المؤسس وهو القرآن الكريم، وكذلك المستقى من أفعال النبى (صلى الله عليه وسلّم)، وبين رمضان الذى يحييه المسلمون الآن قولاً وعملاً. وهذا الفارق يتسع كل سنة، ويهرول فى الاتجاه الذى سيجعل الأول غير الأخير، ليتحول الشهر الفضيل إلى مجموعة من الطقوس الدنيوية المادية البحتة، المغلفة بروحانيات سطحية، وتدبر عابر، وافتقاد للحكمة التى من أجلها فرض الله سبحانه وتعالى الصيام على أمة محمد والأمم التى سبقتها.

فالله فرض الصوم، لا ليعذب الناس بالجوع والعطش والامتناع عن أداء الغريزة الجنسية، بل ليسمو بأرواحهم إلى أقصى حد، ويرتقى بمشاعرهم إلى أبعد غاية، ويدفع غنيهم إلى الإحساس بما عليه فقيرهم، وصحيحهم بما عليه مريضهم، وقويهم بما عليه ضعيفهم. وفرض الله الصوم ليجد الإنسان فرصة قوية، لتدريب نفسه على السلوك الصحيح، فيبنى ما تهدم، ويعدّل ما مال، ويقوّم ما اعوج وانكسر، فإن كان من سريعى الغضب، فليدرب نفسه على الحلم والصبر والتريُّث، وإن كان من محبى النميمة والجدل فليعلم نفسه السكوت الحكيم الذى هو من ذهب، وليتعود على أن يقول خيراً أو ليصمت، وإن كان من المنساقين بعمى وقلة بصيرة وراء غرائزهم، فليقوى ذاته فى مواجهة شهواته، ولا يرهن نفسه لخدمة جسمه، وليدرك أنه بالنفس لا بالجسم إنسان.

وفى كل الأحوال يعطينا رمضان فرصة لتجديد حياتنا، وليصبح كل واحد منا، إن صدقت عزيمته وسلمت نيته، إنساناً جديداً، لا يعبد الله على حرف، ولا يكتفى من الدين بطقوسه وقشوره، بل يلج إلى جوهره الأصيل وحكمته العميقة، فيصبح بحق المسلم الذى تنطبق عليه الآية الكريمة «كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ»، ويصيـر المسلم الذى يباهى به الرسول الأمم يوم القيامة، وليس المسلم الذى لا يمثل سوى قطرة ضائعة فى «غثاء السيل»، فتتداعى الأمم عليه كما تتداعى الأكلة إلى قصعتها.

لكن ما يجرى فى الواقع شىء آخر، فأكثر المسلمين المعاصرين حوّلوا رمضان إلى شهر دعة وراحة وكسل، ونسوا أن الصحابة خاضوا معركة «بدر» فى رمضان، وأن صلاح الدين قد هزم الصليبيين فى رمضان، وأن العرب قد هزموا إسرائيل فى رمضان. كما حوّلوا رمضان إلى شهر تسلية تتسابق على إشباعها شاشات الفضائيات، المتخمة بالمسلسلات والأفلام والمسرحيات وبرامج المسابقات التافهة واللقاءات السطحية مع أهل الفن، إلى الدرجة التى أصبح عندها الممثلون والمخرجون والمنتجون من العلامات المميزة لهذا الشهر، أكثر من علاماته الأصيلة التى شرع الله من أجلها الصوم.

وبات أكثر المسلمين يستهلكون فى رمضان أضعاف أضعاف ما يأتون عليه فى الشهور التى تسبقه وتليه، ليحولوه من شهر الصوم إلى شهر الأكل، وصارت لرمضان صورتان عند النسبة الكاسحة من العوام، صورة فى النهار، حيث الامتناع عن الأكل والشرب وخلافه من الخدمات التى تقدّم للجسد، وصورة فى الليل، حيث يصبح الجسم سيداً، بخلاياه وغرائزه وأشواقه، وتتوارى الروح فى ركن من النسيان والإهمال.

وهذا الفصام المزمن، الذى طالما رصدته أقلام وعدسات فى أقصى الشرق والغرب، أضر بصورة المسلمين إلى حد كبير، وجعلهم عبئاً على دينهم الذى ينطوى على قيم روحية سامية من دون أن يهمل الجسد «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِى أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ»، ويجعل للآخرة الأولوية من دون أن يغفل الدنيا «وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا». لكننا جرنا على هذا التوازن، وخرجنا عن تلك الوسطية، فأعطينا للأدنى أولوية على الأعلى، ودسنا بأقدامنا المعانى الكبرى التى من أجلها شرع الله الصوم.

لقد بُح صوت الذين ينادون كل عام فى أمة محمد لتعود إلى رشدها وتتوب عن غيّها، ولتتعامل مع رمضان بنزاهة وعدل يليق بما ورد عن الشهر الفضيل فى محكم التنزيل، وفى ما كان يفعله الرسول وصحابته، لكن الناس آفتهم النسيان، وهذه ليست آفة المسلمين وحدهم، بل آفة البشرية جمعاء، التى تحول أغلبها إلى آلة استهلاكية نهمة، فصار الإنسان سلعة، تُباع وتُشترى، مع أنه خليفة الله فى أرضه، ومعجزته الكبرى.

 

omantoday

GMT 14:29 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الثكنة الأخيرة

GMT 14:28 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

سوريا... هذه الحقائق

GMT 14:27 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

في أنّنا بحاجة إلى أساطير مؤسِّسة جديدة لبلدان المشرق

GMT 14:26 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مخبول ألمانيا وتحذيرات السعودية

GMT 14:25 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

التاريخ والفكر: سوريا بين تزويرين

GMT 14:24 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

إنجاز سوريا... بين الضروري والكافي

GMT 14:22 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

ليبيا: لعبة تدوير الأوهام

GMT 14:21 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

عالية ممدوح

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

«شهر رمضان» كيف أفقدناه معناه ومغزاه «شهر رمضان» كيف أفقدناه معناه ومغزاه



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 19:30 2020 الخميس ,28 أيار / مايو

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 09:44 2020 الجمعة ,30 تشرين الأول / أكتوبر

حظك اليوم الجمعه 30 أكتوبر / تشرين الأول لبرج الجدي

GMT 23:57 2020 الأحد ,06 كانون الأول / ديسمبر

ينعشك هذا اليوم ويجعلك مقبلاً على الحياة

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab