بقلم : عمار علي حسن
فى رحلتين متتابعتين إلى الكويت والإمارات قابلت مصريين كثيرين هناك، ما إن يرانى أحدهم، أو أجلس إلى مجموعة منهم حتى يرموا فى وجهى السؤال: «هىَّ مصر رايحة على فين؟»، وكنت هنا أتذكر مقولتين، الأولى للرائع الراحل جلال عامر «مش كنت تسأل قبل ما تركب»، والثانى للأستاذ إبراهيم عيسى «مصر لا رايحة ولا جاية، هى واقفة مكانها، لكن فى الظل ولله الحمد»، لكن لا هذه ولا تلك تشفى غليل السائلين، الذين يتملكهم خوف مما يجرى، وحيرة حيال ما سيأتى.
السؤال خرج من مصر منذ مدة ووصل إلى الخارج، بل قد يكون الخارج قد سأل قبل الداخل، فالمهاجرون والمغتربون المصريون فى كل بلاد الدنيا لديهم حساسية إزاء ما يحدث فى البلد، ربما أكثر من الذين يعيشون فيها، وبعضهم يتابع كل صغيرة وكبيرة، ويحرص على هذا أشد الحرص. وهذه عادة أهل مصر دوماً، الذين تربطهم بوطنهم صلات عميقة، حتى لو دانت لهم بلاد الناس، وتمكنوا فيها إلى أقوى حد.
ودوماً أقول لمن يسألون، وفى صراحة تامة: ليس المسئول بأعلم من السائل، لكنهم يبدأون فى أسئلة تفصيلية عن كل شىء، وهنا ينطلق الحوار الذى ينتقل من السياسة إلى الاقتصاد إلى الأمن، ثم الثقافة وأحوال المجتمع، وتختلف الآراء حول التفاصيل، لكنها تتوافق حول اقتناع تام بأن العودة إلى طرح هذا السؤال الأصلى، والأسئلة الفرعية، تعنى أننا أمام مشكلة عويصة، تتسع وتتعمق، وتبدو العقول والأفهام عاجزة عن الوصول إلى إجابة شافية كافية، تشفى الغليل.
الكل بالقطع، من السائلين والمسئول، يتمنون من كل قلوبهم أن تذهب مصر فى طريق السلامة، لكن مجرد طرح هذا السؤال فى حد ذاته يبعث على القلق، وينبه إلى أن هناك خللاً يجب معالجته، وهناك زلل لا بد من تفاديه، فالناس إن سألوا، فعلى أهل الحكم أن يدركوا أن سؤالهم ليس من قبيل التسلية ولا التنطع، إنما هو سؤال مشروع، لمن هم أصحاب السيادة، ومانحو الشرعية، وأصحاب المال أيضاً.
منذ عام 2004، وهذا السؤال يطرح فى مصر، مرة يُطرح خافتاً خجولاً، ومرة جهورياً جريئاً، فإن اختفى يكون الناس قد انبعث فيهم أمل، أو لديهم رغبة فى إعطاء فرصة لمن يحكم كى يثبت جدارته، ويفعل ما يطمئنهم على مستقبل البلاد، أما إن عاد السؤال، فهذا معناه ومبناه أن القلق قد استيقظ من رقاده، والخوف انتفض فى النفوس يصارع الأمان والأمل، وأن ما يتخذ من قرارات، ويتبع من سياساته، وينفذ من إجراءات، تنحرف عن الطريق الذى يؤمن العقل الجمعى المصرى بأنه طريق السلامة.
من جانبى، اتخذت من هذا السؤال مؤشراً على موقف الناس من الحكم، ودوماً لم يخب معى هذا الظن، وكنت أقول دوماً إن مع أول شخص يستوقفنى فى الشارع، ويطرح السؤال علىَّ، أدرك أن الأوضاع ليست على ما يرام، فإن تتابع السؤال، وتنوع طارحيه فى الأماكن والخلفيات المهنية والثقافية، أجد فيه ظلال استطلاع رأى عن رأى الناس فى أهل الحكم ومسلكهم.
وكم فزعت حين نادى سائق مصرى يقيم بالكويت علىَّ وأنا أستعد لوضع حقيبتى فى السيارة التى ستقلنى إلى المطار: «يا أستاذ.. هىَّ مصر رايحة على فين؟، وكان هذا بعد ليلة جلست فيها مع عدد من الشباب المصريين على مقهى وتناقشنا لساعات أربع حول خيارات السلطة والقوى السياسية والقاعدة الشعبية فى المستقبل، وهى أسئلة راحت تطاردنى أيضاً فى الإمارات، وفتحت نقاشاً مع بعض أهل بلدنا المغتربين الذين تتعلق قلوبهم وعقولهم ببلدهم العظيم، الذى يتمنون له كل خير، ويرفعون أكف الضراعة لله سبحانه وتعالى كى يُفرِّج عنه كل كرب، ويقيه من أى مكروه.