بقلم : عمار علي حسن
اشتكى أمامى أحد الأئمة من أن كثيرين يأتون إلى صلاة الجمعة متأخرين، وأغلب هؤلاء يهرولون نحو المساجد وقت إقامة الصلاة، ولا يعنيهم حضور الخطبة، وقال إن الناس لم تعد مشغولة بإقامة شعائر الدين على الوجه السليم والكامل، وإن الدنيا أخذتهم وأغوتهم فراحوا يمرحون ويلعبون ويفرطون فى دينهم.
وسألته فى رفق: «لماذا تلقى باللوم كاملاً على الناس، ولا تفكر ولو للحظة فى أن العيب قد ينصرف إلى الخطباء أنفسهم؟»، فأجاب: نحن نؤدى واجبنا، نقرأ ونُحضِّر خطبتنا، ونقف على المنابر، ونتحدث فى الدين، الذى من الضرورى أن يحرص كل إنسان على أن تكون لديه معرفة به، وفى الإسلام، كما تعلم، فإن تعلم الدين فرض عين على كل مسلم.
قلت له: لا تعتبر نفسك، وإن أتقنت عملك، كل الخطباء، فلدينا مئات الآلاف من المساجد والزوايا، يعتلى أغلب منابرها من لا يحسنون فهم الواقع والمتوقع، ومن لم يتم إعدادهم على النحو السليم، لا من ناحية علوم الدين، ولا فنون الخطابة.
وهنا سألنى: كثيرون فى بلادنا لا يتقنون عملهم، فلمَ تتحدث عن خطباء الجمعة على أنهم وحدهم المقصرون؟ أجبته: أولاً: يعد من المغالطات المنطقية أن يبرر سلوك معوج لفرد بسلوك مماثل لفرد آخر، كأن تقول لابنك: لماذا لا تستذكر دروسك؟ فيجيبك: زميلى الذى يجلس بجوارى فى الفصل لا يذاكر. ثانياً: نحن نتحدث هنا عن شىء محدد وهو خطبة الجمعة، وبالتالى لا بد أن ينصرف الحديث عن الفعالين وهم الخطباء، ثالثاً: هذا موضوع خطير قياساً إلى موضوعات أخرى، فقديماً قرأت بحثاً عن دور خطبة الجمعة فى النهوض بالمجتمع، هذا إن كانت الخُطب قد أعدت بكيفية معينة، وحديثا استخدمت المنابر فى تجنيد متطرفين، بعضهم حمل السلاح فيما بعد، ووظفت فى الدفاع عن حكم مستبد وتبرير كل ما يفعله الحاكم، واستعملت أحياناً فى الدفاع عن أفكار وقيم تشد إلى الوراء.
وهنا عاد إلى السؤال: ماذا تريدون منا بالضبط؟ وصارحته بأننى أحلم باليوم الذى يقف فيه الخطيب على المنبر ليقول لكل واحد فينا: إن ترك نور الغرفة مضاءً وأنت خارجها، أو فتح الصنبور على آخره وأنت تتوضأ أو تقوم بأى عمل من أعمال النظافة، وإلقاء القمامة فى الشارع، وتعطيل سيارتك للمرور بأى طريقة.. إلخ، يرتب عليك أوزاراً وآثاماً لا تقل عند آثام تركك للعبادات.
إن العقوبات الأخروية التى يتحدث بها خطباء المساجد مأخوذة من كتب قديمة كانت تتحدث عن ظروف مجتمعات قديمة، ولمجتمعنا المعاصر ظروفه، التى تنتج سلوكيات، بعضها حسن وبعضها ردىء، وبعضها مستقيم وبعضها معوج، وعلى الدين أن يُقَوِّم المعوج ويكافح الردىء. وهنا من الضرورى أن يشتبك خطباء المساجد مع قضية الأخلاق العامة، ولا يحدثونا طيلة الوقت عن نواقض الوضوء أو يستدعون أحداثاً تاريخية سمعناها منهم ألف مرة، وبعضها مشبع بالأساطير، أو يفرطون فى تأويلات لآيات أو أحاديث واضحة وضوح الشمس، ثم يقولون للناس: هذا هو الصواب، وهذه هى الحقيقة، وهذا ما قصده الله ورسوله. وعليهم أن يعرفوا مقاصد الدين وغاياته الكبرى.
إن البحث عن الجديد، والمشتبك مع الواقع، والجاذب، وامتلاك فنون الخطابة، وإلمام الخطيب بألوان من العلوم الإنسانية وليس فقط العلوم الدينية، كفيل بأن يعيد الناس ليجلسوا تحت المنابر سامعين بإنصات شديد لخطبة الجمعة قبل صلاتها.
فى حقيقة الأمر، نريد «خطاباً دينياً جديداً» وليس فقط «تجديد الخطاب الدينى»، الذى قد لا يعدو أن يكون مجرد طلاء جديد لبيت قديم تكاد جدرانه أن تنقض، وهو موضوع علا الصخب حوله ثم مات، كأشياء كثيرة فى حياتنا نتحمس لها، ثم تفتر همتنا وننساها كأنها لم تكن.