العرب والمعارك الصغرى 22

العرب والمعارك الصغرى (2-2)

العرب والمعارك الصغرى (2-2)

 عمان اليوم -

العرب والمعارك الصغرى 22

عمار علي حسن

 ولم تشأ الصين أن تستمر فى مناطحة الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى السابق فى عالم التسلح الرهيب، بل امتلكت فقط فى هذه الناحية ما يكفى للدفاع عن سيادتها الوطنية، ولم تجار القطبين الكبيرين إبان الحرب الباردة فى بلوغ أجواز الفضاء الرحيب، بل قررت أن تبدأ من مجال هامشى ضئيل فى عالم المال والقوة، لكنه بالغ التأثير فى دنيا الحضور الثقافى والرمزى، ثم الاقتصادى فيما بعد، وهو صناعة «لعب الأطفال»، التى لم تلبث أن اتسعت لتطوق مجالات صناعية تلبى الاحتياجات اليومية البسيطة للفرد والأسرة فى أرجاء العالم كافة، من ملبس وأدوات كتابية وزينة وهدايا... إلخ، وأنجزت فى هذه الناحية إلى الدرجة التى تثير حنق وحقد الولايات المتحدة.

أما الهند، التى اختارت العصيان المدنى طريقاً للمقاومة فى أداء عبقرى قاده رمزها العظيم المهاتما غاندى، فإن توصلها إلى السلاح النووى لردع غريمتها التاريخية باكستان لم يدفعها إلى التلويح بهذه «القوة الخشنة» طريقاً لحيازة مكانة دولية، بل التفتت إلى إدارة معركة صغيرة كان انتصارها فيها مظفراً بكل المقاييس، إلى درجة أن الدولة التى كانت تحتلها وهى بريطانيا باتت فى حاجة ماسة إلى الاستفادة من مظاهر هذا النجاح الهندى. والمعركة التى اختارتها الهند بدأت بالسينما والموسيقى ووصلت الآن إلى عالم الاتصالات والبرمجيات. فإذا كانت الموسيقى الهندية قد اكتسبت شهرة عالمية بتفردها وسحرها وعذوبتها وخصوصيتها التى تنبت من ذائقة الهنود ووجدانهم، فإن سينما الهند خطت طريقها باقتدار، وفرضت أسواقها، ونافست السينما الأمريكية فى آسيا وأفريقيا، على وجه الخصوص، وباتت تشكل مصدراً مهماً من روافد الدخل القومى للبلاد، فى وقت يزيد فيه الطلب يوماً إثر يوم على مهندسى ومبرمجى الكومبيوتر الهنود للعمل فى أرفع المؤسسات الاقتصادية والعلمية الأوروبية.

على النقيض من ذلك يقع الخطاب السياسى والثقافى العربى، على اختلاف المناهل الفكرية والأيديولوجية التى ينبع منها، فى فخ الينبغيات العريضة، فهو يطالب بمشروع نهضة كاملة وتمكن واسع ينتج مكانة وقوة دولية بارزة، دفعة واحدة، وفى سرعة فائقة، حتى بعد انهيار بعض الدول العربية ودخولها فى نفق الصراع السياسى والمذهبى.

وهذا الطرح لا يعبّر عن طموح بقدر ما يشى بتجاهل حركة الواقع وسنن التاريخ، وجهل فى قراءة الإمكانات الراهنة للعرب، فتكون نتيجته إما الاستسلام للبقاء فى الظل واستمراء الضعف والهوان والتفكك بعد تكرار الفشل فى تحقيق نجاح كاسح دفعة واحدة، أو الميل إلى التفسير التآمرى لكل شىء، وكأن العالم لا شغل له سوى الكيد لنا، وهذا يتم تحت وطأة خيال كسيح، لا سيما أن القادرين على التخيل مستبعدون من صناعة القرار فى أى مجال ولأى اتجاه.

وقد يكون العرب معذورين جزئياً فى استعجالهم وإحساسهم بأن هناك ما يدبر ضدهم فى الخفاء، فى ظل التحيز الأمريكى الجلى لإسرائيل، ومع احتلال العراق تحت ذرائع واهية، فى الوقت الذى تتمسك فيه الولايات المتحدة بالخيار السلمى طريقة لحل المشكلتين الكورية الشمالية والإيرانية، وفى ظل همزات الوصل بين أجهزة استخبارات غربية وجماعات وتنظيمات إرهابية تعمل على تفكيك الدول العربية، وكذلك فى ظل توظيف قوة مدنية داخلية مرتبطة بالغرب فى تعميق الاستتباع العربى للولايات المتحدة وحلفائها. لكن العيب أن يتم تضخيم هذا العذر ليصبح بمثابة مرض نفسى عضال يكرس حالة الهروب من مواجهة التفاصيل اليومية العربية، أو تجاهل مسائل مهمة صغيرة، وصغرها ليس طبعاً ولا طبيعة أصيلة فيها وإنما نتاج قيامنا بتهميشها بإرادتنا، وانحيازنا فى الوقت نفسه لحساب «الكليات» الكبيرة، التى هى بنت الأيديولوجيا أكثر من كونها الإفراز الطوعى للواقع الذى يتبدل باستمرار.

لقد حان الوقت للعرب، الشعوب قبل الأنظمة والناس قبل الحكام، أن يلتفتوا إلى المعارك الصغيرة فيخوضوها بثقة واقتدار، بدءاً من معركة تغيير الصورة النمطية المغلوطة عنهم، التى تطفح بها مناهج التعليم ووسائل الإعلام الغربية، وانتهاء بتقديم إسهام ولو بسيط فى حركة الحياة المائجة، قد يكون فى تلبية احتياجات الباحثين عن «الامتلاء الروحى» وما أكثرهم على سطح الأرض، وما أحوجهم لبساطة ومنطقية وسلاسة العقيدة الإسلامية بتبنيها التوحيد، شرط أن نخلص نحن الإسلام من الحمولات الثقيلة لتاريخ المسلمين. وقد يكون فرض احترام الموسيقى الشرقية الخالصة، التى تتفرد باكتمال لحنى لا يتوفر لنظيرتها الغربية، وقد يكون التخصص فى سلعة خارجة من رحم البيئة العربية، أو غير ذلك من مجالات حياتية تبدو، على قوتها وأهميتها، بسيطة فى نظر المتعجلين، الذين لا يرون الإنجاز إلا من خلال دق طبول الحرب.

إن هناك مجالات عدة يمكن للعرب الإسهام بها فى الحضارة الإنسانية المعاصرة، لكن عليهم أن يجلسوا أولاً لتخيل هذا الدور ومفرداته، ثم تخيل كيفية دفعه فى أوصال العالم من شرقه إلى غربه.

omantoday

GMT 15:14 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

تحت البحر

GMT 15:13 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

ترامب الطامح إلى دور شبه ديكتاتور!

GMT 15:12 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

لا سامح الله من أغلق ملفات الفساد

GMT 15:11 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

انتصرنا!

GMT 15:10 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الفكر السياسي سيرورات لا مجرّد نقائض

GMT 15:09 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

«إنت بتفهم في السياسة أكتر من الخواجه؟!»

GMT 15:08 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

الرئيس ترمب؟!

GMT 15:07 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

مجموعة العشرين وقمة اللاحسم

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

العرب والمعارك الصغرى 22 العرب والمعارك الصغرى 22



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 18:46 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامينات ومعادن أساسية ضرورية لشيخوخة أفضل صحياً

GMT 15:32 2024 الأربعاء ,20 تشرين الثاني / نوفمبر

فيتامين سي يعزز نتائج العلاج الكيميائي لسرطان البنكرياس

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab