مخبرون على مقاهى وسط البلد

مخبرون على مقاهى وسط البلد

مخبرون على مقاهى وسط البلد

 عمان اليوم -

مخبرون على مقاهى وسط البلد

عمار علي حسن

تحسبهم جلوساً وهم قيام.. إنهم مخبرو مقاهى وسط البلد، الذين يقتحمون العيون والآذان، بعد أن تم توزيعهم بقوة وسط الجالسين مع اقتراب ذكرى ثورة يناير، يتسمعون ويتنصتون ويكتبون تقاريرهم، فهذه مهمتهم القديمة المعتادة والمألوفة والتى حُفرت لها صورة ذهنية مضحكة فى مخيلاتنا مستمدة فى الغالب الأعم من الأفلام القديمة التى تصور الواحد منهم بطاقيته الطويلة كأسطوانة من قماش سميك، وجريدته المثقوبة من منتصفها، يمد منها عينيه ليتابع ما يجرى حوله، وعصاته التى يغرسها تحت إبطه ويمضى. لكن مخبرى هذه الأيام ليسوا، بالطبع، على هذه الشاكلة، ولا تقتصر مهمتهم على جمع المعلومات وتدوينها، إنما كلفوا من قبَل مَن أطلقوهم وسط الناس بإشاعة الأخبار التى يراد بثها، والأخطر هو التحرش اللفظى ببعض من ينتمون للثورة.

هؤلاء لا يرتدون أزياء مميزة، ولا يجلسون فى وضع المتلصصين بما يلفت الانتباه إلى أنهم مسيرون، وما ينطقونه هو ما تم تكليفهم به، إنما ينخرطون وسط الجالسين، ويتحدثون كأن ما يخرج من أفواههم هو تعبير عن مواقفهم الذاتية المستقلة، يفرطون فى الحديث عن «الثورة التى خربت مصر»، وعن «المؤامرة التى لا تزال مستمرة».

إنها الحالة التى عاينّاها وعانينا منها خلال الثمانية عشر يوماً الرائعة فى ميدان التحرير وما بعدها فى كل الجُمع والمليونيات، حين كان هؤلاء يهلون فرادى ويندسون وسط الناس، ويحرصون على ألا يدعوهم يتفقون على شىء، وينشرون الشائعات المغرضة بينهم، ويلتقطون الصور التى ينتجها متحرشون وبلطجية أطلقتهم أجهزة الأمن وسط الثوار كى يتم توظيفها فى تشويه الميدان عبر مختلف أجهزة الإعلام، حدث هذا أيام حكم المجلس العسكرى والإخوان على حد سواء وبلا تفرقة.

قبل أيام اصطدمت بأحدهم على مقهى فى ميدان باب اللوق، راح يثرثر ويرمى كلاماً فى اتجاهى، كنت فى البداية أحسبه شخصاً عادياً يدلى برأيه، وهو حر فيما يقول على أى حال، فأردت أن أجلس إليه لأفهمه أن مثل الثورة كمثل من رفع غطاء عن إناء يغلى فيه طبيخ حامض، فانتشرت الرائحة الكريهة فى أرجاء المنزل، فقام من فيه ليتهموا من رفع الغطاء بأنه لوث المكان، مع أنه لو ترك الإناء مغلقاً كان سينفجر، وربما يحرق المنزل، ولم يفكر أيهم فى محاسبة من أفسد الطعام. وكنت أريد أن أقص عليه حكاية أقنع بها من يقولون «ولا يوم من أيامك يا مبارك»، تقول إن رجلاً كان معه مال، لكن بيته كان يتهاوى حتى صار آيلاً للسقوط، وزوجته كانت فى أول عهدها بمرض الكبد الوبائى، وابنه كان يمضى فى مراحله التعليمية. كان الرجل مبذراً، فأنفق على أسرته، ولم يفكر فى الغد، لم يعالج الزوجة، ولم يدخر مبلغاً من المال ليضمن استمرار ابنه فى التعليم، وفجأة مات، وبعد رحيله بشهرين اهتز البيت، فخطف الابن يد أمه التى تمكن المرض منها تماما وخرجا سريعاً، ليريا الجدران وهى تتهاوى وتصير كومة من تراب، ولم تمض أيام حتى أدرك الابن أنه ليس بوسعه أن يكمل تعليمه، وذات مساء جلس أمام «الخرابة» التى صار إليها بيتهم، وأمه تئن بجواره فى النزع الأخير، وراح يقول: «ولا يوم من أيامك يا أبى»، مع أن أباه هو سبب ما هما فيه.

أردت أن أوضح هذا، لكن المخبر كان مكلفاً فقط بالصراخ والمزايدة وإطلاق الشتائم، فما كان منى إلا أن قلت له بعد أن اكتشفت حقيقته: أنت مخبر وأنا أدرك أنك مكلف بأن تفعل هذا، فاصفر وجهه، وانكمش داخل ملابسه، لكنه كان حريصاً على أن يبرطم بأى كلام يدارى به حقيقته.

تم توزيع أمثال هذا على مقاهى وسط البلد.. إنها طريقة قديمة عقيمة تدل على أن أجهزة الأمن لا تتعلم ولا تتجدد، والسلطة لا تريد أن تعرف أن أقصر طريق لتحقيق الاستقرار هو العدل ووضوح الرؤية، وليست العودة إلى زمن العسس.

omantoday

GMT 21:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 21:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 21:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 21:53 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الهُويَّة الوطنية اللبنانية

GMT 21:52 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

عقيدة ترمب: من التجريب إلى اللامتوقع

GMT 21:51 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

صعوبات تواجه مؤتمر «كوب 29» لمكافحة التغير المناخي

GMT 21:50 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

بين الديمقراطيين والجمهوريين

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

مخبرون على مقاهى وسط البلد مخبرون على مقاهى وسط البلد



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab