مصطفي الفقي
كلما سافرت إلى الخارج وتجولت بين شعوب الدنيا وأمم الأرض شعرت أننا كعرب عموماً ومصريين خصوصاً نعيش ضد حركة التاريخ بل وخارج إطاره العام الذى نشهده بوضوح فى مدن العالم صغيرة وكبيرة
فالكل يتقدم إلى الأمام، ونحن نتراجع إلى الوراء فقط بل نضيف إلى حياتنا هموماً جديدة ومظاهر متخلفة وتصرفاتٍ غير مسئولة توحى بأننا نتجه إلى أسفل ونحن فى مكاننا بعد أن تجاوزنا مرحلة التراجع بكثير، إننى لست متشائماً بطبيعتى ولكن كلما أحسست أن الآخرين يتقدمون بينما نحن مشغولون بجدل «سفسطائي» وأحاديث لا تنتهى حول الماضى الذى لا نتعلم منه أو الحاضر الذى لا نعيشه حيث نحاول فلسفة كل ما فيه مع تبرير الأخطاء دائمًا وتجميل الحياة شكلياً، وأنا لا أنكر أن اسم «مصر» كبير يجذب نحوها كل من يحاول أن يرصد ما يدور فيها ولكن الذى يزعجنى حقيقة هو أن أرى الآخرين يتحركون إلى الأمام ونحن مشغولون بالتنبيش فى الماضى وتوزيع الإدانات ونشر الاتهامات وترديد الشائعات أما العمل والإنتاج فقد أصبحت مسائل هامشية يتشدق بها المسئولون ولا يهتم بها الشعب العادى المنخرط بشدة فى الاعتصامات والاحتجاجات والإضرابات ولا بأس فهذه ظواهر ديمقراطية معهودة ولكنها يجب أن تقترن بإحياء حقيقى لتحرك سياسى وتعبئة شعبية لدعم الاقتصاد الوطنى وتحريك الاستثمارات الأجنبية والمشروعات التنموية للخروج من عنق الزجاجة التى حشرنا فيها الماضى المؤلم بكل مراحله وعهوده دون استثناء! ولعلى أشير هنا إلى بعض الملاحظات التى تعنينا فى هذا السياق:
أولاً: إن العزلة الدولية أصبحت تعبيرًا نظريًا، فباستثناء نموذجى «كوريا الشمالية» و»كوبا» إلى حدٍ ما لا توجد أسوار مغلقة تحجز الحقيقة أو تخفى المعلومة، وحتى «سور الصين العظيم» قد انهار معنويًا فى السنوات الأخيرة بفعل طرقات التحوّل فى الاقتصاد الصينى الجديد والقفزة الصناعية الهائلة والتحول التجارى الكبير الذى يغزو أسواق العالم، لذلك فنحن جزءٌ لا يتجزأ من القرية الكونية الكبيرة لا نستطيع الانفصال عنها أو رفض الاندماج فيها، كما أن المسئولية الدولية أصبحت جماعية لا تستثنى أحدًا.
ثانيًا: إن «مصر» دولة مركزية محورية بمنطق الجغرافيا وحكم التاريخ فهى لا تستطيع ولا تحتمل ألا تكون جزءًا فاعلاً على المستويين الدولى والإقليمي، وذلك يذكرنا بأهمية الدور الذى يجب أن تلعبه «مصر» فى المنطقة والذى تراجع نسبيًا فى العقود الأخيرة تحت دعوى أن بناء الداخل شرط لنفوذ الخارج وهذا أمر صحيح ولكن ذلك يمضى من خلال حلقة متبادلة فتأثير الخارج على الداخل متبادل فى نفس الوقت ولا يمكن وضع خط فاصل بين العمل الداخلى والجهد الإقليمي، وقد تعودت «مصر» منذ العصر الفرعونى أن تعيش بمن حولها فى تفاعل مشترك جعل لها القيادة والريادة فى الحرب والسلام معًا، ومنذ ثورة 25 يناير وقد تشكل انطباع لدى كثير من القوى الأجنبية ـ نشعر به فى الخارج ـ أن «مصر» فى محنة تبعدها عن هموم المنطقة وقضاياها ومشكلاتها، ولعل تحرك وزير الخارجية الحالى السفير «نبيل فهمي» فى «الأمم المتحدة» و»الهند» و»لبنان» و»القارة الإفريقية» وغيرها هى محطاتٌ تعطى الأمل فى استعادة قوة الدفع وعودة الروح.
ثالثًا: إن نظرة الآخر إلينا تكتسب أهمية خاصة من تأثيرها على طبيعة العلاقات معنا إذ يجب أن ندرك أنه ليس المهم ما نراه نحن فى أنفسنا بمجرد ترديد الشعارات العاطفية والخطب الحماسية والاستطراد فى الإشارة إلى الماضى التليد والتراث الباقى إذ يجب أن نفكر أيضاً فيما يمكن أن نفعله لهذا الوطن، فالمصريون من أكثر شعوب الأرض ترديداً للأناشيد الوطنية وحديثاً عن عشق الأرض الطيبة ولكننا لا نرقى إلى مستوى ذلك بالعمل الجاد والإنتاج الحقيقي، ولقد عرفت شعوب أخرى ذلك عنا وبدأت تقارن بين ماضينا العظيم وحاضرنا المضطرب وتدرك أن شيئاً ما قد حدث لنا فى العقود الأخيرة فقد تضاعف سكان «مصر» مرتين بينما انخفضت نوعية الإنسان المصرى درجتين على الأقل أيضاً فالأسر التى حددت عددها ونظمت نسلها هى الأسر القادرة على تعليم الأبناء ورعايتهم بينما تركت الأسر الأكثر عدداً والأشد فقراً الحبل على الغارب وأصبحت تمثل الأغلب الأعم من سواد المصريين فانخفضت نوعية المصرى الذى كان يبدو للدنيا نموذجاً مبهراً فى العطاء بغير حدود والذكاء دون منافسة حتى توارت عبقرية الزمان والمكان فى خضم سوء الإدارة وزحام الفساد وقبضة الاستبداد.
رابعاً: لقد كانت السلعة الثقافية ولا تزال سواءٌ هى أثر تاريخى أو كتاب محورى أو صحيفة مؤثرة أو فيلم هادف أو مسرحية متميزة هى أدوات المصرى فى الدولة الحديثة للوصول إلى قلوب أشقائه فى المنطقة وعندما توارى الدور الثقافى والتعليمى لمصر فى العقود الأخيرة توارى معه أيضاً الدور الإقليمى برمته وأصبحت «مصر» تبدو للبعض وكأنها تعانى من تركة «الرجل المريض»، الكل يتطلع لوراثة دورها من الخارج والبعض يحاول نهش أحشائها من الداخل حيث أن فصائل معينة ترى فيها جائزة كبرى ونقطة انطلاق للسيطرة على العالمين العربى والإسلامى باسم الدين بعد ضرب الفكر الوسطى المصرى والشخصية الوطنية المعتدلة.
خامساً: إننا نرى أن مستقبل الوطن المصرى محكوم بإرادة أبنائه، أقول ذلك ونحن على أعتاب انتخاباتٍ عامة نختار بها رئيساً جديداً للبلاد ولن يكون ذلك الرئيس إلا تجسيداً لإرادة هذا الشعب الطيب (فمن أعمالكم سلط عليكم) وكل شعب ينال الحاكم الذى يستحق وكفانا لوماً للضغوط الداخلية أو حديثاً عن المؤامرات الخارجية، فالشعوب هى صانعة الإرادة وقاهرة أعدائها بما تملك من رصيد فى الماضى وفطنة فى الحاضر ورؤية للمستقبل.
.. إننى أتوجه إلى المصريين والمصريات ـ كمواطنٍ عرف دهاليز السياسة وخبر كواليس الحكم ـ قائلاً لهم ليس المهم هو البرامج المحبوكة ولا الأفكار المؤثرة ولا الخطط اللامعة، المهم هو أن يكون الحاكم صاحب رؤية مضيئة وخيال خصب وقدرة على استشراف المستقبل بوعى وحكمة وروية فى إطار الوطنية المصرية والالتزام بقضية العدالة الاجتماعية لأن غيابها هو السبب الأول لثورات المصريين عبر تاريخهم الطويل!