تاريخ ما أهمله التاريخ السياسة والأخلاق

تاريخ ما أهمله التاريخ: السياسة والأخلاق

تاريخ ما أهمله التاريخ: السياسة والأخلاق

 عمان اليوم -

تاريخ ما أهمله التاريخ السياسة والأخلاق

بقلم : مصطفي الفقي

انفصلت السياسة عن الأخلاق وثائقيًا بصدور «كتاب الأمير» لـ«ميكافيلى»، الذى ضمَّنه وصاياه لمَن يريد أن يحكم، حتى ارتبطت «الميكافيلية» بمنطق أن (الغاية تبرر الوسيلة)، ولم تكن تلك هى البداية الأولى للتأكيد على انفصال السياسة عن الأخلاق، فمنذ عرفت المجتمعات السلطة التى تحرك مسيرتها والحكومة التى تدير شؤونها أصبحنا أمام نمط جديد فى التفكير يُلزم الحاكم غالبًا بأن يفعل كل ما يستطيع لخدمة شعبه، بطريقة قد تُعفيه أحيانًا من الالتزام بمبادئ الأخلاق أو (كود) السلوك المستقيم، وهو أمر جعل النظم السياسية تمضى فى صراع وراء غايات دولية أو إقليمية أو محلية دون اعتبار للأطر الأخلاقية، بحيث أضحى الحاكم الذى يلتزم شرف الكلمة وصدق العهود حاكمًا نادرًا فى هذا الزمان، ولا يحقق النتائج التى يتطلع إليها لأن الأطراف الأخرى تتعامل بلا شرف أو مبادئ، وتمضى فى طريقها دون اعتبار بالقيم السامية أو الأخلاق النبيلة.

وبَدَت البشرية أشبه ما تكون- فى صراعاتها- بحريق كبير شَبّ فى حمام شعبى عام مخصص للنساء، فهرعت بعضهن عاريات هربًا من النار، ورفضت جماعة أخرى منهن ترك المكان، رغم النيران التى تلتهم أجسادهن حتى لفظن أنفاسهن، لذلك قال الناس: (الذين اختشوا ماتوا)، فالسياسة أشبه ما تكون بالزيت اللزج، بينما القيم الدينية تبدو كالماء الطاهر، لذلك فهما لا يختلطان، وإذا اختلطا لا يمتزجان، لهذا نقول دائمًا إنه ما من محاولة لإقحام السياسة فى الدين أو الدين فى السياسة إلا وكانت نتائج ذلك خسارة على الدين نفسه وقيمه ومبادئه وصورته لدى الناس، فالسياسة تلوث الدين بلزوجتها وكثافتها العالية لأنها تقوم على الصراعات والمؤامرات والدعايات المغرضة والأكاذيب الجماعية، بل إننى أظن أن جانبًا كبيرًا من الأساطير السياسية السائدة فى عالمنا هو نتاج خادع لعمليات تاريخية واسعة تمكنت من إجراء عملية (غسيل مخ) لأجيال متعاقبة حتى (اختلط الحابل بالنابل)، ولم نعد ندرك الأسباب التى أدت إلى شيوع أفكار فاسدة وقيم بالية، ولم نستطع حتى الآن التعرف الحقيقى على أسباب الابتعاد عن القيم الأخلاقية والانزلاق إلى مؤامرات دنيئة لا مبرر لها.

وقد التقى «معاوية بن أبى سفيان» و«عمرو بن العاص» فى حديث هامس ذات يوم يتحدثان عن مستقبل الدولة الإسلامية، فقال «ابن أبى سفيان»: إنما نخطط كل هذا ونفعله من أجل الإسلام ومكانته، فرد عليه «ابن العاص» قائلًا: ويحك يا أبا يزيد (إنما هى لدنيا نريدها)! وبذلك تكرست ذات المفاهيم فى الحضارة العربية الإسلامية مثلما استقرت فى الحضارة الغربية المسيحية، ورغم أن الأديان قد جاءت لتهذيب النفوس ووضع أطر للأخلاق، إلا أن ذلك لم يمنع من سقوط السياسة عمومًا فى مستنقع لا أخلاقى يقوم على المفاوضات والمساومات والألاعيب، وقد قيل إن «ابن حنبل»، صاحب المذهب السُنى الشهير، قد قال ذات يوم: إن حاكمًا ينفع الناس ويفيد نفسه أيضًا خير من حاكم لا ينفع الناس ولا يفيد نفسه! ولسنا بذلك نروج لمنظومة الفوضى الأخلاقية فى العملية السياسية، ولكننا نقوم بتوصيف حقيقى لمسار العلاقة بين السياسة والأخلاق، لذلك يهمنى هنا أن أطرح ملاحظتين:

الأولى: تدور حول الوازع الدينى وتأثيره المباشر على المنظومة الأخلاقية لدى الأفراد، خصوصًا أن الأديان تدعو فى مجملها إلى حفظ العهود واحترام الكلمة والالتزام بالأطر الأخلاقية فى القرارات والإجراءات معًا، ويبقى أصحاب المبادئ الثابتة والالتزام بالأخلاق الصادقة هم الأبقى فى مسيرة التطور الإنسانى، ولم نعرف فى تاريخ الإنسانية نمطًا يخالف ذلك أو يتعارض معه، كما أن الدهاء السياسى لا يعنى بالضرورة السقوط الأخلاقى، فكم من داهية سياسى اعتمد على الأخلاق فيما يقول أو يفعل، ولعلنا نتذكر هنا الداهية «ونستون تشرشل»، الذى قال لشعبه- صادقًا أثناء الحرب العالمية الثانية والطيران الألمانى يقصف العاصمة البريطانية: (ليس لدىَّ ما أقدمه سوى الدم والعرق والدموع)، وعلى الجانب الآخر نرى داهية آخر مثل «هنرى كيسنجر»، الذى تحول من حل مشكلة الشرق الأوسط إلى إدارة الصراع حول «القضية الفلسطينية»، تاركًا لعنصر الزمن أن يعبث فيها كيفما يريد ومتى يشاء.

ثانيًا: إن القوة السياسية والعسكرية تعفى أصحابها من الحاجة إلى إخفاء السياسات والنوايا، وتسمح أحيانًا بالتعامل المباشر والتصرف الصارخ دون أى اعتبار آخر، وهل هناك مَن يستطيع القول إن عالم اليوم محكوم بالقانون الإنسانى والشرعية الدولية؟ إن الكبير يلتهم الصغير والقوى يعصف بالضعيف، ولا مجال للمطابقة بين السياسة والأخلاق، فالانفصال بينهما يبدو أوضح ما يكون فى عصر الأجندات المتداخلة والصراعات المحتدمة والحروب الأهلية فى كل مكان.

إننا نعيش فى غابة عصرية فيها الأسود والنمور، وفيها القردة والزواحف، ويبقى إنسان العصر متخبطًا بين المبادئ التى قرأ عنها نظريًا وبين الجرائم التى يراها أمامه، نحن نعيش عصرًا داميًا وحزينًا، يؤكد كل يوم أن الأخلاق قد ابتعدت كثيرًا عن السياسة، ولا أظنها سوف تعود إليها فى يوم قريب!

إننى لا أتباكى على الأخلاق، ولا أحتفى بالسياسة، ولكننى أؤكد بالضرورة أن الثانية لعبة قذرة فى كل العصور!.

بطريق يحتمى فى أحد الأنفاق بنيوزيلاندا

omantoday

GMT 11:22 2023 الأربعاء ,20 أيلول / سبتمبر

اعترافات ومراجعات (21) طريقة العرض

GMT 01:59 2023 الأربعاء ,06 أيلول / سبتمبر

بورصة البشر

GMT 01:48 2023 الأربعاء ,23 آب / أغسطس

محنة الثقة

GMT 14:25 2023 الخميس ,03 آب / أغسطس

الديمقراطية والرأي العام المصري

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

تاريخ ما أهمله التاريخ السياسة والأخلاق تاريخ ما أهمله التاريخ السياسة والأخلاق



إطلالات أروى جودة في 2024 بتصاميم معاصرة وراقية

القاهرة - عمان اليوم

GMT 19:13 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب
 عمان اليوم - الشرع يبحث مع فيدان في دمشق مخاوف أنقرة من الإرهاب

GMT 18:35 2024 الأحد ,22 كانون الأول / ديسمبر

مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025
 عمان اليوم - مي عز الدين بطلة أمام آسر ياسين في رمضان 2025

GMT 13:56 2024 الثلاثاء ,17 كانون الأول / ديسمبر

نصائح سهلة للتخلص من الدهون خلال فصل الشتاء

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية

GMT 16:04 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تمتع بالهدوء وقوة التحمل لتخطي المصاعب

GMT 12:27 2019 الخميس ,05 أيلول / سبتمبر

السعودية تستضيف نزال الملاكمة الأهم هذا العام
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab