بقلم: مصطفي الفقي
أنا ممن يظنون أن السينما المصرية فى القرن العشرين تلخص بأمانة تطورات المجتمع المصرى، بداية بأفلام الأبيض والأسود وصولاً إلى الأفلام الملونة، ثم دخول تكنولوجيا التليفزيون والفيديو وغيرهما من علامات هذا العصر الذى جعل السينما تدخل كل بيت وتؤثر فى كل أسرة، ولأننى مدمن لقراءة العمود اليومى للمؤرخ والكاتب الصحفى طارق الشناوى، وهو سليل بيت علم وأدب وشعر ودين، تكونت لدىَّ حصيلة لا بأس بها من المعلومات التى يفيض بها ذلك الكاتب الذى يمزج الحقيقة التاريخية والرؤية العصرية، ويقدم لنا الفنانين والأدباء والشعراء بصورة تختلف عن الكتابة النمطية التقليدية، فلديه حصيلة ضخمة من المعلومات والأخبار حول الفنانين الكبار والصغار، ويجب أن يتيه المصريون بتاريخ السينما فى بلادهم باعتبارها أبرز القوى الناعمة التى تدفع بها مصر إلى أشقائها فى المنطقة العربية، ومازلت أتذكر أول مرة دخلت فيها السينما فى حياتى، إذ مرَّ علىَّ فى المدرسة أخى الأكبر اللواء متقاعد زكريا الفقى، الذى كان يسبقنى دراسيًا بسنة أو سنتين لنذهب سويًا إلى سينما دمنهور فى ذلك الصباح من خريف ١٩٥٣، ولم أكن قد شاهدت فيلمًا سينمائيًا قبلها، وتصادف أن كان ذلك الفيلم هو «لحن الخلود» بطولة فريد الأطرش، وعندما أُطفئت الأنوار وبدأت الشاشة تضىء بالأحداث وجدتنى فى عالم مختلف، اهتممت بعد ذلك بأفلام إسماعيل ياسين وكبار الفنانين فى عصره من نجيب الريحانى ويوسف وهبى،
مرورًا بالأسماء المعروفة التى تبدو كالنجوم التى ترصع سماء السينما المصرية فى كل العصور، إلى أن جاء عصر التليفزيون فنقل المسرحيات والأفلام إلى حيث يعيش الناس حياتهم اليومية العادية، بحيث أصبح فى مقدور المصرى أو المصرية أن يجلس فى حجرة نومه ويتابع أحدث الأفلام وأكثرها إثارة وتطورًا، ومازلت أتذكر أفلامًا محورية لا أنساها، فعندما عدت فى إجازة نصف المدة من العاصمة البريطانية، حيث عملى فى السفارة هناك، شاهدت فيلم «خلى بالك من زوزو» الذى أبهرنى كثيرًا بعبقرية تلك الفنانة البائسة التى عانت كثيرًا رغم أنها «سندريلا العصر»، وكنت قد شاهدت فى لندن للنجمة الكبيرة فاتن حمامة فيلمين، هما «الخيط الرفيع» و«أريد حلاً»، وكنت أقرأ بين سطور الأحداث تلك التحولات الكبيرة التى تدور على ساحة المجتمع المصرى بعد أن سكتت المدافع نسبيًا وزال شبح النكسة الكئيب عن سماء الوطن، وربطتنى صداقة كبيرة بعد ذلك بالمخرج الكبير يوسف شاهين الذى طلب أن أتحاور معه على صفحات مجلة «نصف الدنيا» حول العلاقة بين الأدب والفن، وكان رجلاً تلقائيًا صريحًا رائعًا، ومازلت أتذكر جلوسى بجانبه فى حفل عشاء بقصر الإليزيه الفرنسى وميتران يقول فى كلمته أمام الرئيس المصرى إن العلاقات بين بلدينا لا تبدأ بشامبليون ولا تنتهى بيوسف شاهين وداليدا، ورأيت يوسف شاهين يضحك فى سخرية، لأنه لم يكن من هواة المديح وعبارات الثناء، وكان لى صديق مصرى رحل عن عالمنا منذ سنوات هو المهندس جورج إسحاق حكيم، كان هاويًا لأخبار السينما والسينمائيين بشكل لافت، وفى إحدى أمسيات ستوديو صديقى الفنان الراحل محمد نوح بمصر الجديدة، كان يجلس يوسف شاهين معنا كمجموعة من الأصدقاء، واندفع جورج ببراءته المعتادة وقال له: يا أستاذ يوسف ألا ترى أن النقلة النوعية فى تاريخ السينما المصرية هى فيلم «العزيمة» إخراج كمال سليم عام ١٩٣٩؟ فنظر له يوسف شاهين شزرًا وقال بالنص: (ماذا يقول هذا الحمار؟)، وكانت أول مرة يلتقيه من خلالى فقلت له: إن المهندس جورج متابع دؤوب للسينما المصرية، فقال لى: أنت تصاحب «أحمرة»، وضحك الجميع، لأنه لا يمكن أن تسأل مخرجًا عبقريًا عن واحد من أبناء الكار، لأن كل واحدٍ فيهم لا يرى إلا نفسه، وكنت قد نسيت اسم هذا المخرج إلى أن أسعفنى به الصديق العزيز مؤرخ السينما المصرية والعربية طارق الشناوى، وهو الكاتب الذى يستطيع أن يستلهم من أحداث فيلم معين أو ذكرى فنان رحل أو فنانة شحبت من حولها الأضواء، ما يمكن اعتباره تصويرًا اجتماعيًا وإنسانيًا رائعًا يكتبه طارق الشناوى بمسحة سياسية ونكهة ثقافية، ولقد شدنى كثيرًا فيلم «سواق الأتوبيس» للراحل نور الشريف، وإخراج عاطف الطيب، الذى استضفته فى الهند عدة أيام، وكان معه بشير الديك، يحضران مهرجانًا سينمائيًا فى العاصمة نيودلهى فى مطلع ثمانينيات القرن الماضى. ومازلت أتذكر ما كان يردده زميلى الكاتب الصحفى والروائى سامح فوزى، حين تزاملنا فى مكتبة الإسكندرية، وكان يردد عبارة وحيد حامد العبقرية فى الحديث عن مخدر الحشيش قائلاً: (إذا كان حلالًا فنحن نشربه، وإن كان حرامًا فنحن نحرقه)، إن السينما أيها السادة هى ريعان الشباب فى تاريخ الفنون، فإذا كان المسرح هو ماضى الفن، والتكنولوجيا هى حارسة الثقافة، فإن السينما هى داعمة وجودها والمبشرة بمستقبلها.