بقلم : مصطفي الفقي
إن الذى يتأمل طريق الدولة المصرية، فى العامين الأخيرين، سوف يكتشف أن محاولات الاستهداف قد تركزت، وأن التربص بـ«مصر» لا يتوقف، بدءًا من كراهية الأعداء إلى تحول الأصدقاء إلى غيرة الأشقاء! فنحن أمام مشهد مثير لا نكاد نتحرك من مشكلة إلا لنقابل أخرى وكأن هناك حصارًا مضروبًا علينا بالأزمات المتتالية والمشكلات المتراكمة، بحيث أصبحنا لا نفرغ من قضية إلا لندخل أخرى، وكأنما كتب على «الكنانة» أن تظل ببريقها وتوهجها مثارًا للأحقاد ومطمعًا لمن لا يريدون لها خيرًا، فلا نكاد نفرغ من تفجير الطائرة الروسية لتخريب العلاقات مع «موسكو» حتى نواجه حادث مصرع الباحث الإيطالى لتخريب العلاقات مع «روما» وبينهما تتأرجح قضية التمويل الأجنبى للجمعيات التى ترفع شعارات عصرية جاذبة مهما كانت حقيقة عملها أو جوهر رسالتها، وقد اتخذ الساسة الأمريكيون فى «الكونجرس» وغيره من مؤسسات صنع القرار فى «واشنطن» وفى مقدمة الجميع «البيت الأبيض» مواقف انتقادية حادة تجاه «القاهرة»، ولوحت بسلاح المعونة وهو سلاح كريه يمس كرامة المصريين، وفى ذلك الجو الخانق والمناخ الصعب برزت مسألة «تيران» و«صنافير» فى توقيت مضطرب فى «مصر» والمنطقة العربية كلها وبغض النظر عن ضرورة حصول كل ذى حق على أرضه فإن الظرف قد جاء فى وقت لا تبدو فيه الأمور مواتية لجميع الأطراف، إن «مصر» والمصريين يشعرون بضغوط من كل اتجاه واستثمار ظروفهم الحالية يبدو خانقًا، كما لا يمضى أسبوع دون حدث إرهابى فى «سيناء» المصرية المستهدفة من أكثر من طرف فضلاً عن امتداد «الإرهاب الأسود» إلى «الدلتا» و«الوادى»، والمصريون يقفون صامدين وصامتين لأنهم يدركون ما يجرى الترتيب له ومحاولة النيل منهم. إن «مصر» تتعرض لأول مرة فى تاريخها لضغوط خارجية وضغوط داخلية فى الوقت ذاته، فلقد عرفنا فى «العصر الناصرى» مثلًا ضغوطًا خارجية فقط، وعرفنا فى «عصر السادات» ضغوطًا داخلية فقط، ولم نواجه ضغوطًا خارجية ولا داخلية تذكر فى ثلاثين عامًا حكم فيها «مبارك»، أما حاليًا فنحن أمام مشهد صعب وموقف معقد وبرغم الجهود الضخمة والنوايا الحسنة والرغبة الصادقة إلا أننا لم نتمكن بعد من إعادة ترتيب «البيت» وتنسيق «التحالفات الإقليمية» بندية وجسارة، كما أن الوضع الدولى العام لا يبدو مواتيًا بحيث يسمح بحرية الحركة أو القدرة على امتلاك خيارات كثيرة، فـ«مصر» تدفع الآن «فاتورة» تراكمات طويلة ويصفى معها البعض حسابات تاريخية على غير توقع، ويكفى أن نأخذ أزمة «سد النهضة» مثالًا للتحديات التى طرأت على حياتنا وسيطرت على رجل الشارع المصرى وصنعت لديه نوعًا من القلق فضلًا عن المخاوف من المستقبل فـ«المياه» هى الحياة، ويبدو أن هناك ترتيبات معادية ليست بالضرورة «أفريقية» خالصة ولكن هناك قوى تقف وراءها وتفكر لها تمهيدًا لمحاولات إضعاف «مصر» والنيل من المزايا التاريخية التى حصلت عليها، ونحن نتطلع، فى هذه الفترة، إلى الأشقاء «العرب»، خصوصًا فى منطقة «الخليج»، وفى مقدمتهم الدولة الأقرب إلينا تاريخيًا وهى «المملكة العربية السعودية» لكى تمارس دورًا دبلوماسيًا يقنع أشقاءنا فى «إثيوبيا» بألا يسمحوا للتعنت والكيدية أن يمارسا تأثيرهما على الشعب المصرى، وإذا كنا نسلم بوجود «السد» فإننا نسعى إلى أن تكون عملية ملئه على امتداد فترة زمنية أطول مما هو مقرر ولتكن عشر سنوات حتى لا يتأثر منسوب «المياه» الواردة إلى «مصر» تأثرًا كبيرًا، لأن الحقوق التاريخية يجب ألا تمس، كما أننا لا يمكن أن نسمح بحصول طرف على ميزات على حساب أطراف أخرى، وهنا تبرز مسؤولية أشقائنا فى «الخليج» ليجعلوا من استثماراتهم فى «إثيوبيا» أداة للتأثير الهادئ على مواقف «أديس أبابا» التى لا تبدو عادلة ولا تخلو من ثأر تاريخى لا مبرر له، خصوصًا أن هناك وسائل متعددة لحل الأزمة على نحو يجعل كل الأطراف رابحة ويسمح لدول «حوض النيل» بأن تعيش فى ظل شبكة تنموية مشتركة يستفيد منها الجميع، ولعلى أطرح هنا ملاحظتين:
الأولى: إن «مصر» دولة تحترم تعهداتها وتفى بالتزاماتها وتطلب الخير لها ولغيرها ويجب أن يتعامل معها الجميع بذات المنطق، ولعل دولة «إسرائيل» الرابضة على حدودنا الشرقية - والتى وقعنا معها اتفاقًا لـ«السلام» منذ عام 1979 - تدرك أن ذلك الاتفاق لا يخول لها أن تقوم بعمل عدائى ضد الشعب المصرى، لذلك فإن دعمها للجانب الفنى فى مشروع «سد النهضة» فضلًا عن الدعم السياسى والتمهيد الإعلامى والترويج الدولى، أمر غير مقبول على نحو يجعل من تصرفها خرقًا مباشرًا لاتفاقية «السلام» التى تدعو الطرفين (المصرى والإسرائيلى) ألا يقوم أحدهما بعمل عدائى ضد الآخر، ويأتى ذلك فى الوقت الذى يقوم فيه الجيش المصرى الباسل بتطهير «سيناء» من أوكار «الإرهاب» خدمة لـ«مصر» و«فلسطين» وربما «إسرائيل» أيضًا!
الثانية: إن «مصر» واجهت، عبر تاريخها الطويل، ما هو أصعب مما تمر به الآن، ولكنها تعافت وخرجت مرفوعة الرأس تفرض وجودها وتؤكد هويتها مستعينة بخبرة أبنائها فى جميع المجالات، فلن يبنى «مصر» إلا المصريون وواهم من يتصور غير ذلك، إن «مصر» دولة عصية على السقوط وبرغم حجم العداء لها والحقد عليها فإنها سوف تبقى صامدة صابرة والكل حولها يدرك أنها قوة إقليمية أولى ظلت قائدة فى «الحرب» ورائدة فى «السلام»، ولحسن الحظ فإن «مصر» تدرك جيدًا كل المخاطر المحيطة بها - شرقًا وغربًا وجنوبًا - وسوف تظل متمسكة بروحها التاريخية ومكانتها الحضارية وتراثها الإنسانى، ويكفى أن يتذكر الجميع، خصوصًا أولئك الذين يتحدثون عن إمكانية عزل «مصر»، أنها فى ظروفها هذه حصلت على 179 صوتًا للعضوية غير الدائمة فى «مجلس الأمن»، كما حازت منصب «أمين عام جامعة الدول العربية» برغم كل المحاولات التى وقفت فى طريق ذلك، وها هى «القاهرة» تستعيد مجدها الدبلوماسى ويستقبل رئيسها ثلاثة من رؤساء الدول فى أسبوع واحد!
إننا برغم كل المعوقات والمخاطر والألاعيب سوف نتمكن فى النهاية من اختراق جميع المواقف المعادية وحل المشكلات المستعصية واحتواء الأزمات الطارئة.. ولسوف تتدفق «مياه النهر»، وتشرق الشمس، ولا تغيب «مصر» أبدًا!