بقلم : عمرو الشوبكي
أنصاف الحلول غير الاعتدال والوسطية، وتختلف أيضا عن التوازن والمواءمة، لأنها تعنى ببساطة ترحيل المشكلة وتفاقمها، فالطبيعى أن يكون هناك حل واضح يتم تطبيقه إما باعتدال وبشكل تدريجى أو بتطرف وبشكل جذرى (فى يوم وليلة)، أى لابد أن يكون لديك حل ورؤية، لا أن تقف فى منتصف الطريق تجاه قضايا كثيرة، فيكون نصف الحل جزءا من تفاقم المشكلة.
والحقيقة أن تعامل الدولة مع الملف الاقتصادى فى مصر يُعتبر هو التعامل الأسوأ لها منذ عقود، حيث بقيت فى منتصف الطريق لأشهر طويلة فى أمور بديهية، ولأول مرة نجد تحولا فى وظيفة محافظ البنك المركزى وصورته من رجل رصين يحسب كلماته بالحرف إلى رجل يطرح شعارات سياسية أقرب للصراخ الذى نراه فى بعض الفضائيات، فى مشهد نادر لم نَعْتَدْ عليه.
ووقفت الحكومة فى منتصف الطريق فى قضية سعر الصرف، وقدمت نموذجا لا يُحتذى فى أنصاف الحلول، فبعد أن اقترحت على البنك الدولى أنها تنوى تعويم الجنيه على مراحل، قامت بفعل العكس فى السوق المحلية، حتى تدهور وضع العملة الوطنية (المتدهور أصلا) نتيجة سياسات أمنية خرقاء، بأن أعلنت الحرب على محال الصرافة الشرعية، التى تعمل فى النور وبشكل قانونى وتحت أعين الدولة، فتحولت إلى تجارة سرية أشبه بتجارة المخدرات، وتحول كثير من المواطنين وموظفى البنوك إلى مُضاربين وتجار عملة، واكتفينا بشعارات عجيبة عن الجنيه الذى سيسحق الدولار، والأخير الذى سيتراجع وسيصبح بجنيه، والتى لا علاقة لها بالواقع المَعيش.
فسعر العملة كان يُفترض منذ 4 أشهر أن يتحرك فى منطقة وسط (فى حدود 12 جنيها) بين سعره الرسمى وبين الـ18 أو 17 جنيها التى وصل إليها هذا الأسبوع، بدلا من حالة الانفصام التى نعيشها وتؤثر على الاستثمار وعلى حركة رؤوس الأموال وعلى مجمل العملية الاقتصادية بشكل فادح.
هل يمكن أن نتخيل بلدا فى العالم يرغب فى أن يستقطب سياحا واستثمارات عربية وعالمية يكون فيه الفارق بين سعرى الصرف الرسمى والواقعى هو الضِّعف؟ هل حدث ذلك من قبل؟ هل شهدنا بلدا يرغب فى أن يقف على أقدامه- لا نقول يتقدم- تحولت فيه عملة أجنبية إلى سلعة للمتاجرة؟ وإذا اضطررنا (كما هو متوقع) إلى أن نُعَوِّم- ولو جزئيا- سعر الجنيه، فمَن يتحمل مسؤولية هذا الانهيار والسمعة السيئة التى أصابت الاقتصاد المصرى طوال تلك الفترة؟ والتى غابت فيها أى حلول أو أى فعل سواء برفع سعر الفائدة على شهادات الادخار الوطنية أو تعويم جزئى للجنيه، أى إجراءات اقتصادية يعرفها أفضل منا خبراؤنا الاقتصاديون، بل وقفت الدولة متفرجة ولم تقدم إلا الحل الأمنى بإغلاق محال الصرافة.
أما الملفات المعلقة- رغم تشكيل مجالس عليا للاستثمار والسياحة برئاسة رئيس الجمهورية- فهى كثيرة، ولم نبدأ جديا فى تذليل القيود والعقبات التى تقف أمام المستثمرين، سواء بتطبيق ما يُعرف بـ«سياسة الشباك الواحد» أو وضع منظومة قانونية قادرة على جذب الاستثمار.
لن نستطيع الاستمرار ونحن نتحدث كل يوم عن المؤامرة الأجنبية، ونسعى كل يوم من أجل دعوة نفس هؤلاء الأجانب إلى الاستثمار فى مصر، بل نَيْل دعمهم من أجل الحصول على قرض الصندوق الدولى، فإما أن نكون جزءا من المنظومة العالمية حتى لو اختلفنا معها فى قضايا الاصطدام وواجهناها فى قضايا أخرى أو نأخذ طريقاً آخر، فالمطلوب أن نتكلم لغة مهنية، وأن تكون هناك مصداقية وشفافية وقدرة على الإنجاز بعيدا عن الكلام الفارغ.
لا ينفع أن نتعامل مع العالم بلغة رمادية مراوغة، فيمكن أن نكون متعثرين فى تحولنا الديمقراطى، ويمكن أن نكون مأزومين اقتصاديا، ولكن فى يدنا أن نكون واضحين ومباشرين، ونعترف بأخطائنا وعيوبنا، ونحدد مسؤولياتنا والثغرات التى عندنا ونصححها، سواء فى إسقاط الطائرة الروسية ومقتل السياح المكسيكيين(فعلنا) أو فى فك ملابسات مقتل الطالب الإيطالى «ريجينى».
نفس الأمر يتعلق بمعادلة الأمن والسياحة فى سيناء، والتى سبق أن أثارتها مجموعة من المرشدين السياحيين، وهى تتعلق بوقف حركة السياحة البرية فى سيناء، والذى أصاب العاملين فى السياحة بأضرار جسيمة، بالإضافة إلى الكثير من علامات الاستفهام، التى أصبحت تدور فى ذهن السائح الأجنبى والشركات السياحية عن حقيقة الاستقرار فى مصر، وهو ما أدى إلى ذهاب كثير من السائحين إلى بلدان أخرى مثل الأردن، بل حتى إسرائيل نجحت بكل أسف فى استقطاب كثير من السائحين القادمين إلى مصر.
نحن أمام أنصاف حلول سياسية واقتصادية، نتاج هواجس أمنية وشكوك سياسية وريبة وعدم ثقة فى كل الأنشطة المدنية، واعتماد على الحلول الأمنية، وهى كلها أمور ستضر بنا ضررا جسيما. صحيح أن المطلوب مراعاة الأمن والسياسة فى بلد مازال يعانى الإرهاب، ومراعاة التدرج فى الإجراءات الاقتصادية، ولكن كل ذلك فى إطار حل وتصور يمكن أن نقدمه بشكل تدريجى ومعتدل، لا أن نظل أسرى أنصاف الحلول، فنبقى محلك سر، وهذا يعنى فى إيقاع عالم اليوم أننا نرجع إلى الوراء.