تحدث أردوغان، الأسبوع الماضى، عن أنه سيطهر الجيش التركى من «فيروس الانقلابات»، ونسى أو تناسى أن أى فيروس يدخل الجسم هو نتيجة ضعف داخلى، وأن الانقلاب فى النهاية هو عرَض لمرض وليس فى كل الأحوال سببه، حتى لو رفضه أى مؤمن بالديمقراطية ودولة القانون، فهذا لن يغير كثيرا فى ضرورة البحث فى أسبابه.
والحقيقة أن رحلة تركيا مع الانقلابات العسكرية لابد من تأملها لمعرفة أسباب فشل الانقلاب الأخير، والبداية كانت مع انقلاب تركيا الأول فى عام 1960، الذى يمكن وصفه بـ«الانقلاب العقائدى»، وفيه تحرك الجيش المتطرف فى علمانيته فى ذلك الوقت ضد حكومة علمانية قررت فقط أن تتصالح مع القيم الحضارية للإسلام بقيادة عدنان مندريس، فانقلب عليها الجيش عقب اضطرابات اجتماعية وسياسية ومصاعب اقتصادية، حيث كانت المساعدات الأمريكية حسب مبدأ ترومان ومشروع مارشال قد نفدت.
والمفارقة أن الضابط الذى أعلن الانقلاب من الإذاعة التركية كان عضوًا فى «الخونتا»، أى الضباط الانقلابيين، الذين تم تدريبهم عام 1948 من قِبَل الولايات المتحدة لتشكيل المنظمة المقاومة المعادية للشيوعية، وهو ما يمكن القول معه إن هذا الانقلاب لم يكن بعيدا عن أيدى أمريكا.
وأُعدم رئيس الوزراء السابق مندريس، واعتُقل الآلاف، وعُين رئيس أركان الجيش جمال جورسيل رئيسا للبلاد، وأُجبر 235 قائدًا وأكثر من 3000 ضابط على التقاعد، وقُمع أكثر من 500 قاضٍ ونائب عام، و1400 من أعضاء هيئة التدريس بالجامعات، وتم اعتقال رئيس هيئة الأركان العامة التركية، ولم تستمر سلطة الانقلاب طويلا وعادت السلطة للمدنيين.
أما الانقلاب الثانى فكان فى عام 1971 وسُمى انقلاب «المذكرة»، وقدم فيه رئيس أركان الجيش التركى مذكرة أو إنذارا للحكومة، مطالبا إياها باتخاذ إجراءات صارمة ضد الفوضى والعنف الذى شهدته البلاد، عقب أيضا حالة من الركود الاقتصادى ومواجهات دموية بين حركات عمالية وطلابية يسارية مع جماعات يمينية قومية مسلحة وإسلامية.
وجاء الانقلاب الثالث بقيادة كنعان إيفرين فى سبتمبر 1980، ويُعتبر الأكثر قسوة وعنفا فى تاريخ تركيا عقب فترة دموية أخرى شهدتها البلاد طوال عقد السبعينيات، ووصفها البعض بـ«الحرب الأهلية» أو «الاقتتال الأهلى»، وراح ضحيتها 50 ألف مواطن فى ظل انهيار اقتصادى أسوأ مما كان عليه الوضع فى الستينيات.
وفى أعقاب هذا الانقلاب حُل البرلمان والأحزاب السياسية، وتم سحب الجنسية من 14 ألف شخص، وحُوكم ما يقرب من 230 ألف تركى، وتم توثيق 171 حالة وفاة تحت التعذيب، وطُرد 120 أستاذا جامعيا و30 ألف شخص من وظائفهم.
وتولى كنعان إيفرين رئاسة مجلس الأمن القومى التركى، وتولى مهمة تسيير شؤون البلاد إلى حين إجراء انتخابات رئاسية، والتى أسفرت عن انتخابه رئيسًا فى نوفمبر 1982 بنسبة «90%» من الأصوات، ثم قام بعرض دستور جديد على استفتاء قام فيه بتحصين نفسه وجنرالات الانقلاب من المحاكمة فى المادة 15، وعزز الدستور من دور الجيش فى الحياة المدنية، تحت حجة حماية الجمهورية والعلمانية فى المادتين 35 و85 من الدستور التركى.
تغيرت تركيا فى التسعينيات، وعرفت أول رئيس إصلاحى علمانى (بعد مؤسس الجمهورية مصطفى كمال أتاتورك)، وهو تورجوت أوزال، الذى نجح فى إخراج تركيا من جانب كبير من أزماتها، وحقق إنجازات اقتصادية كبيرة وإصلاحات سياسية سمحت للطبعة الأولى من حزب العدالة والتنمية، ممثلا فى حزب الرفاه، بقيادة الراحل نجم الدين أربكان، بأن يصل للسلطة، بالمشاركة مع حزبين علمانيين آخرين، بعد أن حصل على أغلبية غير مطلقة فى الانتخابات البرلمانية، وبدأ فى تغيير دفة التوجهات الداخلية والخارجية لتأخذ بعدا إسلاميا واضحا. وهنا شهدت تركيا ما عُرف بـ«الانقلاب الناعم»، الذى اكتفى فيه الجيش بالنزول إلى الشوارع ومارس ضغوطا على الحكومة حتى أسقطها، وتحرك باعتباره جماعة ضغط قادرة على وضع فيتو على أداء النظام السياسى برمته دون الحاجة لاستخدام القوة العسكرية، وحُل حزب الرفاه وظهر بدلا منه حزب الفضيلة، وحُل أيضا، ثم ظهرت طبعته الأخيرة على يد رجب طيب أردوغان، ممثلة فى حزب العدالة والتنمية.
فيروس الانقلابات تكرر وارتكب جرائم كثيرة، ولكن فى كل مرة كان فى أعقاب فشل حزبى واقتتال مجتمعى وسياسى وانهيار اقتصادى، صحيح أن الانقلابات لم تحل مشاكل تركيا منذ عام 1960 حتى الآن، إنما كانت بمثابة «فيتو» فى وجه القوى السياسية والمجتمعية، التى دخلت فيما بينها فى صراعات مفتوحة أوصلت المجتمع إلى حالة من الفشل شبه الكامل.
الجيش التركى لم يحكم بشكل مباشر فى أى مرحلة من المراحل، بما فيها المرحلة التى تولى فيها قائد الجيش رئاسة البلاد بأغلبية 90%، فقد كان هناك دائما وسطاء سياسيون وحزبيون.
وقد مثَّل غياب هذه العناصر سببا رئيسيا وراء فشل الانقلاب التركى الأخير (أو بالأحرى وُلد ميتا)، فلم يشارك فيه أى من القادة الكبار (باستثناءات قليلة)، كما أنه لم يكن له ظهير سياسى من أى نوع حتى لو تعاطف معه البعض «همساً»، كما أنه جاء بعد فترة هى محل جدل وانقسام داخل المجتمع التركى، وظلت تمثل لقطاع واسع تجربة استقرار ونجاح اقتصادى.
لم ينجح انقلاب تركى واحد إلا فى أعقاب حالة من الفوضى والعنف والفشل الاقتصادى والسياسى، كما أنه لم يحكم انقلاب واحد دون ظهير حزبى وسياسى ودعم شعبى كبير.
والمؤكد أن أردوغان فى طريقه لأن يصبح عامل فشل سياسى واقتصادى مثلما هو مصدر الانقسام الأول داخل المجتمع التركى، ومقاومته لا تعنى بالضرورة تدخل الجيش، إنما مزيدا من فاعلية المجتمع، وإذا قمع أردوغان الأخير أكثر فلن يكون بعيدا أن نشهد فى المستقبل المنظور محاولة انقلابية جديدة تمتلك شروطا أكثر للنجاح.