الاتجاه وعكسه

الاتجاه وعكسه

الاتجاه وعكسه

 عمان اليوم -

الاتجاه وعكسه

عمرو الشوبكي

ربما لم تشهد مصر، على مدار تاريخها المعاصر، واقعا سياسيا شبيها بالذى تمر به الآن، ففى الوقت الذى تحتاج فيه إلى خطاب سياسى متماسك داخليا وخارجيا، وقعت فى فخ الحكم بالقطعة أو باللقطة حتى أصبحت الصورة العامة تحمل الشىء وعكسه، ونسير فى اتجاه متصورين أننا اختصرنا المسافة، والحقيقة أننا طولناها وعقدناها لأننا نعرف، منذ اللحظة الأولى، أنه «عكس» الاتجاه.

والحقيقة أن أسوأ ما تعانى منه مصر الآن هو الخطاب السياسى المرتبك، والذى يحمل توجهات عكس بعضها البعض على خلاف معظم مراحلنا التاريخية المعاصرة، فنحن دولة تقول إنها تشجع الاستثمار والسياحة وفى نفس الوقت تنظر أجهزتها لكل ما هو أجنبى على أنه جاسوس أو متآمر، حتى صار لغز مقتل الطالب الإيطالى حديث المدينة، واتهمت مصر بأنها متورطة فى قتله دون دليل قاطع، ولم تنجح بدورها فى تقديم دليل قاطع على براءة أجهزتنا.

والحقيقة أن الخطاب المدافع عن الوطنية حاليا والموظف سياسيا وإعلاميا لا يصنع تقدما، ويكرس سلبيات كثيرة لا علاقة لها بأهم خطابين وطنيين شهدتهما مصر فى تاريخها الحديث: الأول مع الحركة الوطنية المصرية قبل ثورة يوليو بقيادة حزب الوفد بليبراليته الوطنية، وبدفاعه عن الدستور والاستقلال، والثانى مع جمال عبدالناصر حين ارتدت الوطنية المصرية رداءها العربى وقادت حركات التحرر الوطنى فى العالم الثالث كله ضد الاستعمار وقضت عليه.

الاشتراكية فى عهد عبدالناصر كان يتبناها بصور مختلفة ثلث العالم، وعارض النظم الرأسمالية تحت رايتها ثلث آخر، وكان حديث مثقفى مصر الكبار والعظام عن الاشتراكية والقومية العربية يعنى، ضمنا وتلقائيا، التفاعل مع العالم لأنه يستخدم مفردات تفهمها الدنيا حتى لو اختلفت معها، فكانت مصر مزارا لقادة أفريقيا وأوروبا وأمريكا الجنوبية وكبار مثقفيهم، فجاء إلى مصر جان بول سارتر، وزار أهرام هيكل أكثر من مرة ولم يناقشه أحد إذا كانت الوجودية (نظريته الفلسفية) حلالا أم حراما؟ وزار كل قادة الفكر الغربى والشرقى مصر مرات عديدة، وزارها جيفارا الثائر الكبير، وكان العالم يسمع ما نقوله ويأخذه بجديه حتى لو اختلف معنا وتآمر علينا.

أما الآن فنحن نقول الشىء وعكسه، وأداؤنا مثلا فى التعامل مع حادث سقوط الطائرة الروسية كشف مثالب كثيرة فى أدائنا السياسى والمهنى، فحتى روسيا الصديقة صارت متآمرة علينا، لأنها منعت مجىء مواطنيها لمصر حتى تتأكد من سلامة الإجراءات الأمنية، وبعد أن أنكرنا رواية العمل الإرهابى فى البداية أقر بها الرئيس فى خطابه الأخير.

خطاب تحيا مصر الذى يحب كل مصرى طبيعى أن يردده لا يكفى لكى نتقدم به، ولن يكون قادرا على أن يحقق تنمية أو حتى تعبئة فى الداخل وأن يسمعه أحد فى الخارج.

من الصعب أن نجد مثيلا لشعاراتنا الوطنية المرفوعة حاليا فى أى مكان ناجح فى العالم، فلا هى ليبرالية الوفد الملهمة، ولا هى اشتراكية عبدالناصر التقدمية، ولا هى ثورية إيران، ولا هى تمثل نموذجا للتلاقى بين الشرق والغرب كما فى تركيا، وليست اشتراكية البرازيل الإصلاحية، ولا هى مهنية الإمارات أو سنغافورة أو كوريا الجنوبية وإنجازاتها المبهرة، وليس عندنا حزب شيوعى ولا حزب «سيساوى» يبنى نظاما شموليا قادرا على الإنجاز وتحقيق تقدم اقتصادى هائل كما فى الصين، وإذا قال البعض دع الأجهزة الأمنية تبنى بمفردها وترتب قوائم انتخابية ومشهدا سياسيا، طالما أحزابنا ضعيفة، فيقيناً نحن نسير فى طريق الفشل وليس النجاح.

من يتصور أن القمع والاستماع لصوت واحد وإقصاء كل المعارضين والمثقفين وشتم النخبة والعلماء قادر على أن يدفع الجماهير للتركيز فى الشغل وإنجاز المشاريع الاقتصادية الكبرى فهو واهم، وإذا كانت الصين مثلا قد أقصت كل المعارضين لنظامها السياسى إلا أنها بنت حزبا واحدا عملاقا ضم الغالبية العظمى من الكفاءات المتعلمة، ولم تعتمد على رئيس أو زعيم بمفرده، وخلقت نظاما قادرا على أن يفرز الكفاءات لا أن «يطفشها».

الحقيقة ليس لدينا نظام سياسى بالمعنى المتعارف عليه فى النظم الشمولية الناجحة، ولا بالطبع النظم الديمقراطية، وكل ما يقوله الحكم عن التنمية والإنجاز نرى عكسه فى الإعلام والممارسة العملية، فليس لدينا خطه لإصلاح التعليم وتطوير الجامعات، وليس لدينا حتى تصور لملامح خطاب سياسى متجانس قادر على نقلنا خطوة للأمام.

ليس فى العالم المتقدم أو نصف المتقدم ما نقوله الآن من شعارات (يتصور البعض أنها سياسية)، ولذا ليس غريبا أنها نجحت فى جذب أسوأ نخبة تطبيل وتجهيل عرفتها مصر فى تاريخها المعاصر، صحيح أن هذه الأشكال كانت موجودة دائما على مدار تاريخنا المعاصر، إلا أنه من المؤكد أنه كان بجوارها أو فى مواجهتها نخبة أخرى لم تكن بالضرورة معارضة إنما كثير منها كان من قلب الدولة ومن رجالها الذين اتسموا بالنزاهة والمهنية وحب العلم والمعرفة، أما الآن فالحرص على التصحر الكامل جعل الشتامين والجهلاء هم رموز المرحلة وقادتها الذين أثّروا بلاشك فى قطاع من المؤيدين وجعلوهم يرددون كلاما فارغا ويتحدثون عن خرافات ومؤامرات بدل العلم والبناء.

هل سيفيق البعض ويعرف أن الرجل الذى خون أفضل من فى مصر على مدار سنوات طويلة واتهم الجميع بأنهم عملاء للصهيونية العالمية والمؤامرة الأمريكية، هو الذى طبّع مع السفير الإسرائيلى واستقبله فى عقر داره، وأن ما يجرى فى مصر الآن ستكون تداعياته خطيرة بسبب انعدام الرؤية وفشل السياسة وتعثر الاقتصاد، فلن نخترع العجلة ولن ننجح فى أن نكون الصين ولا كوريا الجنوبية ولا اليابان، لأننا ببساطة فشلنا قبلها فى أن نكون رواداً فى العالم العربى، ومنافسين لتركيا وإيران، ونبنى نموذجنا الخاص بعيدا عن الكلام الفارغ.

omantoday

GMT 21:56 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

نعم... نحتاج لأهل الفكر في هذا العصر

GMT 21:55 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مقتلة صورة النصر

GMT 21:54 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

مشكلة العقلين الإسرائيلي والفلسطيني

GMT 21:53 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

الهُويَّة الوطنية اللبنانية

GMT 21:52 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

عقيدة ترمب: من التجريب إلى اللامتوقع

GMT 21:51 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

صعوبات تواجه مؤتمر «كوب 29» لمكافحة التغير المناخي

GMT 21:50 2024 الثلاثاء ,19 تشرين الثاني / نوفمبر

بين الديمقراطيين والجمهوريين

الإسم *

البريد الألكتروني *

عنوان التعليق *

تعليق *

: Characters Left

إلزامي *

شروط الاستخدام

شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

اُوافق على شروط الأستخدام

Security Code*

 

الاتجاه وعكسه الاتجاه وعكسه



تارا عماد بإطلالات عصرية تلهم طويلات القامة العاشقات للموضة

القاهرة ـ عمان اليوم

GMT 22:59 2019 الأحد ,15 أيلول / سبتمبر

اهتمامات الصحف الليبية الأحد

GMT 09:41 2019 الخميس ,01 آب / أغسطس

تعيش أجواء مهمة وسعيدة في حياتك المهنية
 
syria-24

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

Maintained and developed by Arabs Today Group SAL
جميع الحقوق محفوظة لمجموعة العرب اليوم الاعلامية 2023 ©

omantoday Omantoday Omantoday Omantoday
omantoday omantoday omantoday
omantoday
بناية النخيل - رأس النبع _ خلف السفارة الفرنسية _بيروت - لبنان
oman, Arab, Arab