تظهر القصة بشكل أوضح فى السير الذاتية للسياسيين، حيث يمتزج الإبداع الأدبى بالتحليل السياسى، وتختلط القدرة على صياغة الحبكة الدرامية مع الرغبة فى تبرير المواقف السياسية.
وقد تنبّه الباحثون فى علم السياسة، فى ضوء توجهات ما بعد الحداثة، إلى أن الأحداث السياسية دائماً تشتمل على مظاهر إبداعية، وأن القصص، التى يسردها الفاعلون السياسيون حول حياتهم وأعمالهم والأحداث التى مرت بهم، يجب أن تنال حظاً وافراً من التحليل السياسى.
وإلى جانب السرد، فإن مجال الفكر السياسى، على وجه الخصوص، يعتمد أحياناً وسيلة من الوسائل المهمة التى تستخدمها الرواية والمسرحية، على حدٍّ سواء، وهى «الحوار». فمن الممكن أن يقيم المفكر السياسى حواراً بين الأفكار، القديمة والحديثة، أو بين المفكرين، الأحياء منهم والأموات، فى سعيه لتقريب فكرة أو مفهوم معين.
وقد كان نيقولا ميكافيللى، على سبيل المثال، يحاور تلال الكتب القديمة، المرصوصة فوق أرفف المكتبات، وهو يبحث عن طريقة ينتشل بها فلورنسا من الضعف الذى آلت إليه.
كما أن الفلسفة السياسية وجدت نفسها، قديماً وحديثاً، فى حاجة ماسة إلى إقامة حوار بين الأشخاص والأفكار، ليس للاستمتاع بلذة اللغة، لكن لإثبات الحجج والمواقف، والدفاع عن المصالح.
وقد حاول بنيامين باربر أن يُثبت جدوى هذه الطريقة فى تقريب المواقف والمفاهيم السياسية، فأقام شكلاً مسرحياً، عبر حوار يتم بين مختصين فى القانون الدولى والعلوم السياسية، من بينهم «باربر» ذاته، وزعماء سياسيين مثل أدولف هتلر وهارى ترومان وجورج واشنطن، ومعهم جندى أمريكى شارك فى الحرب العالمية الثانية، حول موضوع الحرب وأفكار ومواقف سياسية أخرى.
ويتيح لنا تعدّد وظائف النص البحث عن الجوانب السياسية فى النص الأدبى من منطلق أنه يصلح لقراءات متعددة.
فكما سبق الذكر، فى ثنايا الفصل الثانى من هذه الدراسة، فإن وحدة النص إبداعاً لا تؤدى أبداً إلى وحدة فهمه تلقياً، فالنص الواحد إذا قرأه عشرة أشخاص، ربما يخرجون بعشرة مضامين مختلفة له.
كما يلمس العمل الأدبى السياسة حين يرصد الصراع الاجتماعى، ويعد الأخير نافذة مفتوحة على مصراعيها بين كثير من النصوص الأدبية، وبين الفهم والفعل السياسى.
ويلعب الأدب، بمختلف ألوانه، دوراً سياسياً مباشراً، أو غير مباشر فى الحياة السياسية، ففضلاً عن كونه قد يكون أداة فى يد السلطة لتشكيل وعى المجتمع، بما يخدم مصالح طبقة أو فئة معينة، أو على النقيض، قد يصبح أداة لمقاومة استبداد السلطة بالحيلة تارة وعنوة تارة أخرى، وهو ما سبق شرحه فى ثنايا الفصل الأول، فهو أيضاً أحد العناصر الرئيسية التى تكون وجدان الأمم، ويسهم مع غيره، من أدوات التشكيل الثقافى فى صياغة شخصيتها القومية وبلورة هويتها الحضارية، كما يعتبر أحد المصادر الأساسية لدراسة الشعوب.
وقد اتجهت بعض الدول لفحص الإنتاج الأدبى لأمم أخرى لتتعرّف من خلاله على بعض جوانب تكوينها النفسى والاجتماعى، فالمخابرات الأمريكية كلّفت عدداً من أساتذة الأدب اليابانى بجامعات الولايات المتحدة، خلال الحرب العالمية الثانية، بتحليل الأدب اليابانى للوقوف على خصائص الشخصية اليابانية.
ولما اشتد التنافس بين الولايات المتحدة الأمريكية والاتحاد السوفيتى السابق، اتجه جهاز المخابرات المركزية الأمريكية «سى آى إيه» أيضاً إلى العناية بالأدب السوفيتى؛ للتعرّف على ملامح المجتمع الروسى.
واهتم الإسرائيليون بدراسة الأدب العربى، وراحوا يترجمونه منذ وقت مبكر، فى حين اهتمت بعض مراكز البحوث العربية بدراسة الأدب الصهيونى؛ للغرض نفسه.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تردّد أن المخابرات المركزية الأمريكية، ساعدت فى الترويج لاتجاه «الحداثة وما بعد الحداثة» فى الإبداع والنقد الأدبى، من أجل الحد من مدرسة الواقعية الاشتراكية، التى امتد نفوذها إلى العالم أجمع. وتم تنفيذ ذلك عبر ما يُسمى بالمجلس الثقافى الحر، الذى أنشأ مكاتب فى 35 دولة، وقام بتعيين مئات الموظفين، وتمويل عشرات المجلات، وتنظيم مئات المعارض والمؤتمرات، وتخصيص عشرات الجوائز للأدباء الذين سلكوا هذا الاتجاه، ودفع رواتب منتظمة لعدد من النقاد، خاصة اليساريين الذين عارضوا التجربة الشيوعية للاتحاد السوفيتى السابق، ليعدوا دراسات متعمّقة ذات طابع نظرى تؤصل لهذا المدرسة الأدبية.
ونظر بعض المفكرين العرب إلى الأدب على أنه وسيلة مهمة؛ لبعث الروح القومية، والحفاظ عليها. لذا نجد أن مفكراً قومياً كبيراً، مثل ساطع الحصرى، يطالب الأدباء بأن يتحملوا مسئوليتهم تجاه المجتمع، ويؤمنوا بوحدة الأمة ولا يستسلموا لنوازع «الإقليمية» أو يندفعوا وراء فكرة العالمية، ويجنّدوا إنتاجهم الأدبى فى خدمة القومية العربية.
وشبّه «الحصرى» المنتوجات الأدبية من حيث تأثيرها الاجتماعى ببعض المصنوعات المادية، ورأى أن من الأدب ما يعمل عمل أسلحة الحرب والنضال، ومنه ما يعمل عمل آلات الحرث، ومنه ما يعمل عمل أدوات الزينة، مثل القلائد والأساور، ودعا الأدباء العرب إلى أن تكون كتاباتهم أسلحة فى مواجهة أعداء الأمة، ومحاريث تسهم فى زيادة إنتاجها وتقدّمها.