بقلم - مكرم محمد أحمد
صحيح أن الأزمة التي يواجهها العالم العربي والتي اصطلح الجميع علي تسميتها بالأزمة القطرية ليس لها عنوان واحد أو باعث واحد أو مسرح محدد، وهي في حقيقة الأمر وكما وصفها أمين عام الجامعة العربية أحمد أبوالغيط خلال اجتماعات مجلس وزراء الإعلام العرب، أزمة لها عناوين كثيرة وبواعث متعددة تتفاعل علي مسرح هائل الاتساع يمتد علي مسافة العالم العربي كله، في مشاهد تدمي القلب لمدن وحواضر عربية جري تدميرها ولملايين المشردين العرب الذين أخرجوا من ديارهم، وعشرات الآلاف من الشهداء والقتلي والجرحي، وصراعات تشتعل في معظم أرجاء العالم العربي تتجاوز خسائرها أكثر من ترليون دولار كما قدرها الرئيس عبدالفتاح السيسي، دون أفق معلوم لنهايتها أو إشارة لقرب حلها!
وإذا كان العالم العربي في أغلبه ضبط دولة قطر متلبسة بتمويل جماعات الإرهاب وتسليحها وتدريبها وإعطائها ملاذات آمنة، ابتداء من داعش إلي القاعدة وجبهة النصرة وجماعة الإخوان، الأمر الذي جعل رئيس الولايات المتحدة يصفها بأنها الممول التاريخي لجماعات الإرهاب التي دمرت سوريا وليبيا والعراق، وحاولت تدمير مصر في ثورة يناير تحت شعار الفوضي البناءة وسعت إلي شق السعودية وإشعال حرائق الفتنة الطائفية في البحرين وتشجيع جماعة الإخوان علي بناء تنظيم سري لها داخل دولة الإمارات، تصبح قطر المتهم الأول في عمليات التدمير الواسع التي لحقت بالعالم العربي إن لم تكن الفاعل الرئيسي مهما تعددت أدوات التخريب وتطايرت أسبابه، وما من شك أن عوامل كثيرة ومتداخلة ساعدت قطر علي ارتكاب جرائمها أولها أن قطر ارتضت منذ البداية أن تكون مخلب قط لمصالح دولية ضخمة يهمها تدمير العالم العربي وتفتيت إرادته والسيطرة علي مقدراته ابتداء من إسرائيل إلي أجهزة التخابر الأمريكية التي اعترفت أخيرا علي لسان مدير المخابرات المركزية بأنها وظفت قدرات قطر في مهام متعددة بعضها يتعلق بحماس في غزة وبعضها يتعلق بجماعة الإخوان في مصر وسوريا وليبيا، ربما بدوافع طموحات دولة حقيرة لا يزيد عدد تعداد سكانها علي 300 ألف نسمة، حباها الله ثروة طائلة من الغاز الطبيعي المسيل تطورت علي نحو خاطئ، أن تبنيها لجماعات الإرهاب يمكن أن يساعد علي تضخيم دورها ويضاعف من تأثيرها في منطقة الشرق الأوسط، ويزيد قدرتها علي ابتزاز أشقائها وجيرانها الأكبر منها، وبالطبع شجع دولة قطر علي هذا المسلك انتماء قديم لجماعة الإخوان شكل جزءا مهما من هويتها الثقافية.
لكن قطر ما كان يمكن أن تحقق هذا النجاح دون خطة متكاملة استهدفت تزييف وعي الإنسان العربي وتخريب عقله، ساعد علي رسم خطوطها خبراء عرب وأجانب في سيكلوجية الحشد وهندسة وبناء وتزييف الرأي العام وغسيل أمخاخ الشعوب، شهدنا مثالها في مصر بعد وفاة الزعيم جمال عبدالناصر، عندما تعرضت مصر لحملة نفسية ضارية استهدفت تشويه صورة عبدالناصر في أذهان المصريين وتسفيه كل معاركه وإنجازاته، لكن الحملة لم تنجح ولم تصمد أمام وعي المصريين بجدوي وأهمية الدور التاريخي الذي لعبته ثورة يوليو ولعبة عبدالناصر في إيقاظ الوعي المصري والعربي!
والآن نشهد خطة متكاملة لتزييف الوعي العربي وتخريب عقل الإنسان العربي تقوم علي الأسس والقواعد نفسها، من خلال خطاب إعلامي زاعق ومختلف عما هو سائد تعددت منابره، هدفه الأول استثمار الأزمات التي يشهدها عدد من البلدان العربية في إذكاء الفتن والانقسامات وتفتيت المفتت كي يزداد تفتيتا، ونشر أفكار التطرف والكراهيةوالعنف وتقديم الخونة والعملاء وقادة التطرف وقيادات الجماعات الإرهابية في صورة أبطال ونجوم يستهدفون التغيير من أجل الأسوأ أو الأكثر شرا يجسد تليفزيون الجزيرة مثاله الأهم خلال العقد الأخير تحت دعاوي حرية الرأي والابداع والانتصار للرأي والرأي الآخر التي تنسج علي منوالها منابر جماعة الإخوان وأدواتها الإعلامية في المبتغى التي يختص القوات المسلحة المصرية بحملة كاذبة شرسة تستهدف تدمير صورة البطل في أذهان المصريين وتجريحه وتشويهه، فضلا عن بعض الشاشات ومواقع التواصل الاجتماعي التي تجذب أعدادا غفيرة من الشباب، يشكلون أكثر من 60 في المئة من تعداد العالم العربي، يعانون من ضحالة الثقافة وغياب دهشة المعرفة مع غياب عادة القراءة وانهيار مستويات التعليم وندرة قراءة الصحف، همهم الأول أن يتحصلوا علي مايتصورون أنه الحقيقة في شكل «بلابيع» مختصرة ورسائل سريعة الهضم والاجترار، لاتري عقلا ناقدا أو حصيفا بقدر ما تربي ببغاوات تنطق بما لاتفهم أو تعرف!
ومع انتشار ثقافة الحفظ والاستظهار وسيادة مناهج التخوين والتكفير وغلبة البضاعة الفاسدة في سوق استهلاكية يسودها الغش نجحت الي حد كبير عملية تزييف وعي الانسان العربي رغم وجود كثير من الشباب العربي يحسن استخدام عقله ويستطيع فرز الصالح من الطالح والتمييز بين الغث والسمين. ومع سطوة هذه المنابر الجديدة علي عقول الأجيال الجديدة، كان من الطبيعي أن تسود الشارع والمكتب والبيت قيم أخلاقية مختلفة، يزدري فيها الصغير الكبير، ويغيب احترام الابن للأب، ويتضاءل دور الأم المربية لصالح الشارع وشلة الأصدقاء!
وفي بداية لقائه مع وزراء الإعلام العرب،تساءل الرئيس عبدالفتاح السيسي مندهشا، هل يمكن أن تصل عملية تزييف وعي الإنسان العربي إلي حد أن يدمر العرب بعضهم بعضا، ويتواطأ بعضهم مع جماعات الإرهاب إلي حد إحداث هذا التدمير المخيف الذي أصاب العراق وسوريا وليبيا وتونس واليمن؟!، وهل يمكن لمصر التي أصابها النصيب الأكبر من المؤامرة ودفعت هذا الحجم الهائل من التضحيات أن تقبل بحلول وسط مع قطر وجماعات الإرهاب؟! مؤكدا في وضوح قاطع أن مصر لا تقبل ولن تقبل بأية حلول وسط مع الإرهاب وسوف تواصل حربها علي الإرهاب إلي أن يتم اجتثاث جذوره ويلتزم الجميع بتجفيف منابع تمويله وعدم تقديم أي من صور العون المادي والمعنوي لجماعاته، لكن السؤال الخطير الذي يتطلب جهودكم كوزراء إعلام عرب يهمهم أمن الوطن العربي واستقراره، ماذا بعد؟ وهل نسمح باستمرار عملية تزييف وعي الإنسان العربي وتخريب عقله وتدمير قيمه وأخلاقه؟!.
أثار سؤال الرئيس السيسي همة وزراء الإعلام العرب الذين تتابعت تعقيباتهم علي تساؤلات الرئيس تساند موقف مصر في وضوح قاطع وتؤيد رفضنا لأية حلول وسط مع الإرهاب وقطر ، وتؤكد التزامها بفضح كل صور تزييف وتغييب الوعي العربي وتقترح ميثاق شرف جديد تلتزم به مؤسسات الإعلام العربي، ليس شرطا أن يكون حكوميا، بما يمكنها أن تصبح مصابيح نور تعين الوطن العربي علي فهم واقعه وتمكنه من التمييز بين الغث والسمين استنادا إلي المعلومات المدققة والرأي الموضوعي الذي يقوم علي أدلة ثبوت أو أدلة نفي عقلانية ورشيدة، وفي قاعة اجتماعات الجامعة العربية وكأنها تصاريف أقدار صحيحة، استكمل وزراء الإعلام العرب بعد عودتهم من لقاء الرئيس السيسي مناقشة أبعاد قضية تزييف الوعي وتخريب العقل العربي بعد أن زن الدبور علي خراب عشه، عندما طلب مندوب قطر الدائم في الجامعة العربية الذي لم يكن مدعوا للقاء الرئيس السيسي التعليق علي كلمة وزير إعلام دولة البحرين في جلسة سابقة، تحدث فيها بالوقائع والأدلة الثابتة عن الدور التخريبي الذي تلعبه قناة الجزيرة.. قال المندوب القطري لافض فوه، إن الجزيرة مهنية تقدم الرأي والرأي الآخر ولأن العرب لا يقبلون الرأي الآخر يورطون أنفسهم في معاداة حرية الرأي والتعبير، أول مبادئ الديمقراطية وشروطها بطلبهم إغلاق قناة الجزيرة الذي ترفضه قطر.
أثار تعليق المندوب القطري استياء القاعة، وتتابعت كلمات وزراء إعلام السعودية والبحرين ومصر واليمن تندد بدور «الجزيرة» الداعم للإرهاب الذي لا علاقة له البتة بحرية الرأي والتعبير بعد أن وضح للعالم العربي والكثير من الدول الغربية أن الجزيرة مجرد بوق لجماعات الارهاب، وان دورها الاساسي هو تخريب وتزييف الوعي العربي وتمزيق وحدة العرب وخدمة مصالح شريرة فهي تستبيح الجميع دون أن تجرؤ علي أن تقول كلمة نقد واحدة لسياسات قطر ومواقف الحكم القطري الذي يتآمر علي السعودية ومصر والبحرين والإمارات، ويعاند ويكابر رغم شهادة رئيس الولايات المتحدة بأنهم الممولون التاريخيون لجماعات الإرهاب في الشرق الأوسط، فضلا عن أن سجلات «الجزيرة» في كل بلد عربي تؤكد طبيعة دورها المحرض الذي لاعلاقة له بحرية الرأي والتعبير، وهذا ما يعرفه عن يقين كامل أغلبية المصريين الذين تابعوا عن قرب دور الجزيرة في أحداث يناير في تزييف الوقائع وفبركة أخبار كاذبة. وتلفيق صور وتقارير غير صحيحة أسقطت مصداقيتها في مصر وأخرجتها من نطاق وسائل الاعلام لتصبح مجرد بوق كاذب وأداة رخيصة تستخدمها قطر لابتزاز أشقائها وجيرانها، ولأن الأسباب واضحة وجلية تصر الدول الاربع من خلال تجاربها المباشرة مع الجزيرة علي رفض استمرار الجزيرة في دورها التخريبي وترفض قطر إغلاقها، لأن الجزيرة هي توءم الإرهاب بدونها تقطع يد قطر ويتلاشي دورها.
وبالطبع ثمة أسباب أخري غير قطر والجزيرة تعمل علي إفساد الوعي وتخريب العقل العربي لانستطيع أن نبرئ أنفسنا منها، أخطرها الخلط الفاتح بين الديماجوجية والتحريض وحرية الرأي، والفهم الخاطئ لحرية الرأي التي يراها البعض حرية مطلقة لايجوز لحرية الرأي التي يراها البعض حرية مطلقة لايجوز المساس بها حتي إن استخدمها البعض لترويج الفتن والتحريض علي العنف والإرهاب، وشق وحدة الأوطان وضرب مصالحها الاساسية في الأمن والاستقرار، وتمادي هذا الخطأ الفاحش إلي حد تبرير التكفير والتخوين وتخريب الأوطان وتدمير الأمصار بما يفرض علي الإعلام الغربي ضرورة إعادة النظر في دوره المهم لحماية الرأي والعقل العربي من عمليات التخريب والإفساد، وليكن واضحا للجميع أننا لانطالب بالحجر علي حرية الرأي وحتي الاختلاف ولانطارد الرأي الآخر الذي بدونه يصعب التعرف علي الحقيقة، ولانريد المساس بحق النقد الذي لاينبغي تحصين أي مسئول عربي من ضرورته ضمانا لصحة المسيرة الوطنية، فقط نطالب بالحفاظ علي معايير المهنية والحرفية واحترام قيم الصدق والتدقيق وحق المواطن في أن يعرف ويشارك، وجميعها يدخل في إطار المعايير الاخلاقية التي تحافظ علي شرف المهنة ومنع سوء استخدامها لأهداف رخيصة وخطيرة.
المصدر - الاهرام