بقلم : د. وحيد عبدالمجيد
ليس غريبًا فشل النخبة السياسية الأمريكية في المحافظة على قيمة التسامح التي تُهدر كل يوم في صراعاتهم.
وليس غريبًا أن تُهدر هذه القيمة السامية عندما تشتد حدة أزمة النظام الديمقراطى على النحو الذى نراه فى الولايات المتحدة.
منذ جون لوك وروبرت فرجسون وجون آدون وغيرهم فى النصف الثانى من القرن السابع عشر، وحتى كارل بوبر فى القرن العشرين، ومرورًا بفولتير وغيره فى النصف الثانى من القرن الثامن عشر، خاض طابور طويل من أصحاب النزعة الإنسانية معارك فكرية وسياسية انطلاقًا من إدراكهم أن إرساء قيمة التسامح شرط للارتقاء بالبشر، وليس لتوطيد أركان الديمقراطية فقط.
كانت البداية مع مواجهة التعصب الدينى الذى لفحت نيرانه أوروبا بقسوة, وأغرقتها فى أتون حروب مذهبية ومعارك لاهوتية, إذ حذر رواد السعى إلى التسامح من مغبة استمرار رفض الآخر وشيطنته واضطهاد المختلف، ودعوا إلى تقدير العقل الإنسانى، وإطلاقه من أسر القيود التى كبلته، ونزع سلطة من صادروه، وأطفأوا أى نور ينبعث منه، وفرضوا ظلامًا، منذ أن نصَّبوا أنفسهم أوصياء على البشر.
وعندما حققت دعوتهم قدرًا معقولاً من التقدم، واصل فرسان عصر التنوير الفكرى السعى لإرساء التسامح تجاه الأفكار والمواقف المختلفة، والتبصير إلى أنه ما يجعل المرء إنسانًا يعى إنسانيته وليس مجرد كائن حى، وفق فولتير الذى أدرك كيف أن الإنسان ضعيف بطابعه وقابل لارتكاب الخطأ، الأمر الذى يفرض أن يُسامح بعضنا بعضًا، وأن نتسامح مع اختلافاتنا بشكل متبادل.
وأكمل كارل بوبر هذا المسار الطويل الذى أُرسيت خلاله قيمة التسامح، إذ بلور موقعها الدلالى بالنسبة إلى الديمقراطية التى لم يتصور وجودها فى مجتمع لا يجد كل فرد نفسه فيه موضع تسامح من جانب كل فرد آخر. ولو أن السياسيين الأمريكيين الذين يخوضون معارك صفرية الآن اطلعوا على مسار إرساء قيمة التسامح التى يهدرونها لخجلوا من أنفسهم.
ولكنهم ليسوا وحدهم، إذ تتراجع قيمة التسامح فى عالم تبدو الأعراض المترتبة على أمراضه السياسية والفكرية أشد من تلك التى يعانيها المصابون بفيروس كورونا.