د. وحيد عبدالمجيد
الانتقائية هى إحدى آفاتنا العقلية. وإغفال أن الوقاية خير من العلاج هو أحد مصادر الاختلال فى سلوكنا. ونجد نموذجاً لهذا الاختلال وتلك الآفة فى التعامل مع الخطر الذى يهدد العرب المسيحيين فى العراق الآن،
رغم أنه ليس إلا نتيجة تراكمات بدأت فى بلادنا العربية كلها منذ عقود طويلة فى بيئة سياسية ومجتمعية متخلفة. فكان التطرف والتعصب هما أكثر ما أنتجته هذه البيئة.
وتعود بداية مشكلات العراقيين المسيحيين إلى ستينيات القرن الماضى، أى قبل الغزو الأمريكى وما أدى إليه من فوضى. وقل مثل ذلك عن معظم البلاد العربية التى يوجد فيها مسيحيون، مع تفاوت فى حجم المشكلات التى تعرضوا لها ومازالوا.
وقد أدت الاستهانة بهذه المشاكل فى بدايتها إلى المشهد المؤلم الراهن. كما أن معاناة العرب المسيحيين لم تقتصر على العراق. والمثير للانتباه أن الاهتمام بمأساة المسيحيين الفلسطينيين يكاد أن يكون معدوماً، أو قل إنه نادر. فقد ارتبط تراجع موقع قضية فلسطين فى جدول أعمالنا بإهمال كل ما يتعلق بها حتى عندما ينطوى على مفارقة لابد أن تكون لافتة بطابعها وهى أن المسيحيين ينقرضون فى بلد المسيح، ولكن بشكل تدريجى وليس بطريقة الصدمة التى أحدثها دخول التنظيم المسمى «الدولة الإسلامية» الموصل وتهجير مسيحييها الذين يبلغ عددهم نحو 25 ألفاً.
لقد فقدت بيت لحم وبيت جالا أكثر من هذا العدد من المسيحيين، ولكن على مدى عقود الاحتلال الصهيونى. كما أنهم غادروا فلسطين نهائياً، ولم ينتقلوا إلى مدن أو بلدات أخرى فيها.
غير أن المأساة الأكبر هى أن معاناة المسيحيين هى واحدة فقط من مكونات محنة عربية مخيفة، وأحد عوامل تفاقم هذه المحنة فى الوقت نفسه. فتفريغ العالم العربى من مسيحييه يحرمه من أهم مصادر تنوعه ويحيله بالتالى صحراء قاحلة ثقافياً وحضارياً على نحو يفتح المزيد من الأبواب أمام التطرف والإرهاب.
لقد ثبت أن التنوع هو المصدر الرئيسى لثراء أى مجتمع وقدرته على التقدم. والمسيحيون هم أكثر الفئات التى تخلق تنوعاً واسعاً وخاصة فى البلاد التى تتعدد فيها طوائفهم مثل لبنان الآن، وفلسطين إذا لم يكن وجود أى من هذه الطوائف فيها انتهى.
ولذلك تعد مقاومة تهجير المسيحيين، أو هجرتهم الطوعية هرباً من أوضاع بائسة، أحد أهم وسائل الخلاص من المحنة العربية على قاعدة المواطنة والديمقراطية بلا تمييز.