بقلم:مصطفى فحص
في كتابه «العلم والسياسة بوصفهما حرفة» يشدد عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر على أن أحد أهم شروط قيام الدولة «احتكار الاستخدام الشرعي للقوة البدنية»، فشرط الاحتكار هو سمة أساسية من أجل قيام الدولة التي يجب أن تحصر مبدأ «احتكار استخدام العنف» بمؤسساتها فقط، وأوضح فيبر أن الجيش والشرطة هما الأداتان الرئيسيتان الوحيدتان اللتان يناط بهما الاستخدام المشروع للقوة البدنية داخل إقليم معين ضمن حدود الدولة، ويعد أن هذا الاحتكار أحد أهم شروط نجاحها.
حتى فجر يوم الجمعة الفائت، كانت الدولة الروسية تحتفظ بكامل هيبتها وسيادتها الداخلية، إلى أن أعلن قائد ميليشيا «فاغنر» عن استيلائه على مدينة «روستوف» وبدأ زحفه نحو العاصمة، هذا الفعل الذي استمر لعدة أيام فقط كشف عن خطورة أن تسمح أي سلطة مهما كان مستوى هيمنتها على المجتمع والدولة لكيان موازٍ أن يقوم مقامها ويهدد استقرارها، ويعد أحد أهم مظاهر ضعفها كما في إيران وسوريا والعراق ولبنان واليمن، حيث هناك شرعيات مسلحة بعضها يمتلك غطاء قانونياً كاملاً وبعضها بات أمراً واقعاً وباتوا جميعاً في هذه الدول يقومون مقام الدولة لدرجة الاستيلاء عليها أو الهيمنة على قراراتها، أو التمرد على سلطتها كما جرى مع «فاغنر».
بالرغم من الانتهاء السريع لتمرد طباخ الكرملين، لكنه على الأرجح سيترك تداعيات سياسية وأمنية واجتماعية على الداخل الروسي، الذي كان يحظى باستقرار داخلي منذ انتهاء المرحلة الانتقالية ما بعد الاتحاد السوفياتي أي منذ تسلم بوتين السلطة سنة 2000 بعد تنحي الرئيس بوريس يلتسين. فمنذ ذلك التاريخ وبعدما تمكن بوتين من إزاحة كافة خصومه ومنافسيه الأقوياء في تلك المرحلة وحتى تاريخ 24 من الشهر الحالي لم يكن في روسيا إلا شخص واحد، وحرص الكرملين على ألّا يكون حتى هناك رجل ثانٍ، حيث كان من الصعب تحديد من يرث بوتين في السلطة إلى أن خرج يفغيني بريغوجين وتحدى هذه السلطة وجعل روسيا لساعات كأنها دولة برأسين وقوتين عسكريتين.
الأولى رسمية نفذت انتشاراً عسكرياً دخل العاصمة ومحيطها وقطعت الطريق الخارجية التي تؤدي إليها، أما الثانية فتصرفت كحركة تمرد سيطرت على مدينة استراتيجية وتحركت نحو العاصمة السياسية كأنها تنفذ انقلاباً على السلطة.
عملياً أدت هذه الأزمة إلى إزاحة بعض الغموض من داخل أسوار الكرملين، وأخرجت إلى العلن أزمة صُناع القرار وصراعاتهم، فزعيم «فاغنر» على الأرجح لم يكن وحيداً، فهناك حتماً من يؤيده، أما خصومه فلولا تدخل بوتين الشخصي من اللحظة الأولى للأزمة لم يكونوا قادرين على مواجهته، وهذا ما سيؤثر على صورة النظام داخلياً وخارجياً.
في الداخل باتت الأسئلة مشروعة ومشرّعة عن تماسك النظام وعن الحرب الأوكرانية، خصوصاً أن هذه الأزمة هي جزء من صراع بين معسكرين (معسكر الحرب ومعسكر التفاوض)، وكشفت أيضاً عن صراع داخل مجموعة القوة (الأمن والعسكر) المعروفة بـ«سيلافيكي»، وهذا الصراع يمثل ضربة قاسية لتماسك الجبهة الداخلية في دولة تخوض حرباً خارجية دفاعاً عن أمنها الوطني، أما خارجياً فإن المعسكر الغربي سيستغل هذه الأزمة من أجل إرباك روسيا عسكرياً واقتصادياً وسياسياً وجرّ الكرملين إلى مزيد من الاستنزاف في أوكرانيا التي أصبحت تثقل الداخل الروسي، كما أن الأزمة ضربت أحد أهم مبادئ الكرملين في السياسة الخارجية، فمن الثورات الملونة إلى الربيع العربي دافعت موسكو عن استقرار الأنظمة ورفضت التدخل الغربي في شؤون الدول الداخلية وبررت تدخلاتها الخارجية تحت ذريعة فرض الاستقرار فيما يرى الغرب وخصوصاً واشنطن أن روسيا الآن بحاجة إلى من يحافظ على استقرارها.
وعليه، فإن «فاغنر» تثبت أن ضوابط التعايش ما بين الدولة والميليشيات تبقى محدودة، وأن من يطبخ هذا السّم داخلياً أو خارجياً مُعرّض لتذوق عنفه.