بقلم : مصطفى فحص
عامل الأتراك بكثير من الريبة مع الأوروبيين٬ ينتابهم الشعور بأن كثيرا من الدول الأوروبية أغلقت أبوابها في وجوههم٬ وبأن ما تبقى من نوافذ دبلوماسية لا يرتقي إلى المستوى المطلوب في العلاقات بين الدول٬ إذا ما قورنت بتلك التي كانت قائمة في السابق٬ حين كانت تركيا جزءا من الأمن الجماعي الأوروبي وأحد الشركاء الأقوياء في الناتو٬ ما دفع أنقرة إلى التعامل بحذر مع الدرس الهولندي والألماني والدنماركي٬ يضاف إليهم مواقف أوروبية رسمية سابقة٬ باتت تشكل التعبير الأكثر وضوحا عن المزاج السياسي الأوروبي في العلاقة مع ما تمثله أنقرة الجديدة في الوعي الجماعي الأوروبي٬ الذي استعاد جميع حساسياته التاريخية٬ متخليا عن البراغماتية التي حكمت علاقته بأنقرة كحليف ضروري أثناء الحرب الباردة وما بعدها.
هذا الموقف الأوروبي المتشنج من الأتراك منذ الثورة السورية لا يخلو حاليا من انتهازية سياسية أوروبية تحاول توظيفه في معاركها الانتخابية من خلال تحويل تركيا إلى مادة أساسية في 13 استحقاقا انتخابيا ستشهده أوروبا خلال عام من الآن٬ خصوصا أن الأتراك يشكلون نحو 20 في المائة من إجمالي الجالية الإسلامية المقيمة في أوروبا٬ ما يحولهم إلى قضية مربحة لدى اليمين الأوروبي.
في المقابل٬ لم يغفر الأتراك للأوروبيين تخليهم عن دعم ومساندة أنقرة في سوريا٬ التي تركت وحدها في الميدان تواجه روسيا وإيران٬ اللتين استفادتا من التواطؤ الغربي ضدها٬ ونجحتا في إفشال رغبتها في تحقيق أول إنجاز توسعي لها على المستوى الجيوسياسي في منطقة كانت تمثل لعدة قرون المجال الحيوي التركي. عندها سارعت أنقرة إلى القيام بأول خطوة انتقامية٬ وبين ليلة وضحاها جعل الأتراك سوريا محاذية جغرافيا لألمانيا وإيطاليا واليونان وفرنسا٬ عندما سمحوا بعبور مئات آلاف السوريين إلى القارة الأوروبية عبر الحدود التركية٬ فكان على أوروبا التي رفضت عرض أنقرة في ترحيل شخص سوري واحد مقيم في قصر المهاجرين٬ أن تتحمل أعباء قيام الأسد بترحيل أكثر من 8 ملايين سوري.
التصدع التركي – الأوروبي٬ والتركي الأميركي الذي ظهر في سوريا٬ أعاد القضية التركية إلى الواجهة٬ حيث تعمد كثير من الدول وفي مقدمتها الولايات المتحدة٬ الاستثمار في هذه القضية للضغط على النخبة السياسية في أنقرة٬ المنشغلة منذ تأسيس الجمهورية التركية بمعضلة حماية الأمن القومي التركي٬ حيث تسيطر العقدة الكردية على الحيز الأكبر من العقبات الداخلية٬ خصوصا بعد فشل أغلب نماذج الاندماج القسري التي فرضتها السلطة التركية المتعاقبة في أنقرة على المناطق الكردية.
أما خارجيا فقد بدأت المسألة الكردية تحظى باهتمام كبير في الأروقة الدولية٬ بعد أن تم استخدامها من أكثر من جهة دولية للتأثير على الاستقرار السياسي التركي٬خصوصا أن الجماعات الكردية المسلحة التي تتبنى مشروعات انفصالية في مناطق كردستان الكبرى٬ المقسمة جغرافيا بين تركيا وإيران وسوريا والعراق٬ استفادت من ضعف الحكومتين المركزيتين في بغداد ودمشق٬ بهدف التحرك سياسيا وعسكريا لتحقيق أهدافها.
يدرك الأتراك أنهم خسروا كثيرا من نفوذهم في الشمال السوري٬ وأن أحد أسباب تراجع دورهم هو ربما تقاعسهم في أخذ دور في حلب٬ وهذا ربما يحرمهم مستقبلا من الوصول إلى منبج٬ فبعد أن مكنتهم موسكو من السيطرة على مدينة الباب٬ أجبروا على التوقف عند أبواب منبج التي تحولت من قرية منسية في الشمال السوري إلى حيز جغرافي تتشكل فوق ترابه ملامح نظام عالمي جديد.
في منبج٬ لمس الأتراك استمرار الأوبامية السياسية٬ فبالنسبة لهم لم تتغير مواقف واشنطن كثيرا حتى الآن٬ لم تتخ ّل إدارة البيت الأبيض عن الورقة الكردية. ولكي تتلافى أنقرة مزيدا من التصعيد مع واشنطن التي تتناقض تصريحاتها حول سوريا منذ شهرين٬ فضلت القيادة التركية تمديد إقامتها السياسية في موسكو٬ مراهنة على إمكانية الاستفادة من التقارب الروسي الأميركي الذي كان الاجتماع العسكري الثلاثي في أنطاليا أحد أبرز مؤشراته٬ حيث كان رئيس الأركان التركي خلوصي آكار أحد أركانه٬ إضافة إلى رئيس هيئة الأركان الأميركية ونظيره الروسي٬ والذي لم تزل نتائجه غامضة٬ ما ينذر بمزيد من التعقيدات بعد تمسك كل طرف بموقفه٬ وبعد أن تحول جزء من مهمة القوات الأميركية المنتشرة في منبج٬ للفصل بين حليفي واشنطن الأتراك والأكراد٬ وهي المهمة التي تقوم بها أيضا القوات الروسية للفصل بين قوات النظام و«درع الفرات»٬ ومن هنا لا يمكن استبعاد الاشتباك بين هذه القوات إذا قرر أحد الأطراف تحقيق مزيد من المكاسب على حساب طرف آخر٬ حينها ستتجاوز الاستعدادات الروسية الأميركية التركية الكردية تحرير الرقة إلى ما هو أخطر على الأمن والاستقرار في المنطقة والعالم٬ ما يحول منبج إلى ساحة يتم فيها القضاء على مشروعات وقيام أخرى.
المصدر : صحيفة الشرق الأوسط