بقلم : مصطفى فحص
عندما كلف الرئيس الأميركي جو بايدن المفاوض الأميركي روب مالي بمهمة الملف الإيراني، تنفست طهران الصعداء، واعتبرت أن هذا التكليف فرصة ذهبية لعودة المياه إلى مجاريها بينها وبين الإدارة الجديدة، لكن مالي المعروف بـطروحاته الدبلوماسية لم يستطع إعطاء إيران ما يمكن التعويل عليه من أجل دفعها إلى الانخراط الكامل في عملية التفاوض، فمهما كانت صلاحياته التفاوضية إلا أنه لا يستطيع تخطي ما حددته الإدارة بأنها مستعدة لدراسة تخفيف بعض العقوبات فقط في حالة استئناف المفاوضات.
ففي تصريحاته الأخيرة قطع روب مالي الطريق على طهران في استخدام أوراقها الداخلية من أجل تسريع المفاوضات، عندما اعتبر أن الانتخابات الرئاسية الإيرانية ليس لها أي تأثير على المفاوضات، لأن واشنطن تنطلق من اعتبارات الأمن القومي الأميركي. موقف مالي الرافض ربط المفاوضات بالانتخابات، ينزع ورقة تكتيكية من طهران كانت تستغلها دائماً مع الغربيين، عندما كانت تحذر من أن التشدد معها سيؤدي إلى خيارات متشددة داخلها، وأن هذا سيضعف الطرف المؤيد للحوار مع الغرب ويعزز من فرص الطرف المعارض ويقوي موقفه، إلا أن الخديعة الإيرانية التي استمرت لأربعة عقود في خداع المجتمع الدولي بأن نظامها يتميز بطبيعتين (دولة وثورة)، وصلت إلى نهايتها وبات الجميع يرفض الفصل بينهما بعدما استخدمها النظام الثنائي (روحاني وظريف) من أجل تمرير مآربه في الوقت الذي كانت مراكز صنع القرار الفعلي مستمرة في تنفيذ مشاريعها الاستراتيجية والتوسعية. كما أن الخديعة التي مارسها من يعرف نفسه بتيار الدولة، لدفع المجتمع الدولي منحه فرصاً إيجابية تحت ذريعة تعزيز موقفه داخل النظام باتت مكشوفة.
الأخطر على طهران ما جاء في كلام صديقها مالي، أن بلاده وإسرائيل تريدان تجنب الخلافات العلنية بشأن إيران كما حدث في حقبة باراك أوباما، وأن الإدارة الجديدة ملتزمة بالتشاور والشفافية مع تل أبيب، إذ قال «نحن لا نتفق دائماً لكن المحادثات مفتوحة للغاية وإيجابية بينما قد يكون لدينا تفسيرات ووجهات نظر مختلفة حول ما حدث في 2015 و2016 ولا يرغب أي منا في تكراره».
عملياً، في انتظار فرج أو انفراجة تفاوضية تبحث عنها طهران بإلحاح، لا تبدو واشنطن مستعجلة على تقديمها، وتمارس دبلوماسية متناقضة في تعاطيها مع ملف المفاوضات، فتارة تعبر عن استعدادها للجلوس إلى الطاولة وتارة أخرى تعبر عن عدم استعجالها، فحتى مالي نفسه قال في آخر تصريح له إن إدارته لن ترفع العقوبات بشكل أحادي عن طهران، فهذه التناقضات المحيرة لطهران تدفعها إلى الاعتقاد بأن مالي المسؤول عن ملف في البيت الأبيض يملك صلاحيات التفاوض ولا يملك الحق في اتخاذ القرار، فهو حتى الآن يعرض عليها التفاوض المباشر أو غير المباشر فقط بينما ترفض طهران عرض المفاوضات من أجل التفاوض فقط.
قبل تصريح مالي المحير لطهران طالب 140 مشرعاً من كلا الحزبين الديمقراطي والجمهوري، إدارة بايدن بعدم رفع العقوبات، والعمل على التوصل إلى اتفاق شامل مع طهران يشمل إضافة إلى النووي مشروعها الباليستي، ويحد من مخاطر سلوكها المزعزع لاستقرار الشرق الأوسط. وهذا ما أثار حفيظة وزير خارجيتها جواد ظريف الذي رفض التطرق إلى صيغة أشمل للاتفاق.
أزمة طهران أنها كانت تراهن على الدبلوماسية الدولية من أجل دفع واشنطن إلى عودة غير مشروطة إلى الاتفاق، وعندما صدمت بعدم رغبة واشنطن في استعجال العودة، طرحت فكرة القيام بخطوات متزامنة، لكنها لم تلق صدى لا في واشنطن ولا في عواصم أوروبية، بل إنها تتعرض الآن لضغوط دولية من أجل عودتها إلى المفاوضات من دون شروط، حيث رمت الدول الأوروبية الكرة في ملعبها وحملتها مسؤولية خسارة فرصة متاحة للبدء بمفاوضات جدية يمكن أن تكون بدايتها قريبة لكن نتائجها بعيدة.
وعليه تشعر طهران بخيبة الأمل، فطعنات المسؤولين في الإدارة الأميركية الجديدة وحلفائها الأوروبيين تتزايد، وآخرها جاءت من الشخص الذي راهنت عليه وتوسمت به خيراً، فتصريحات روب مالي لا تختلف كثيراً عن موقف المتشددين في إدارة جو بايدن، فبالنسبة إلى طهران ما ذهب روب مالي إليه يمثل طعنة في جسد الملف النووي تشبه إلى حد ما الطعنة التي تلقاها القائد الروماني يوليوس قيصر من بروتوس المعروف بأنه أقرب المقربين إليه ودفعته إلى قول جملته الشهيرة «حتى أنت يا بروتوس». فمن بروتوس العظيم في نظر يوليوس قيصر إلى روب مالي العظيم في نظر طهران كانت الصدمة.