بقلم : خالد الدخيل
نالت صدمة المفاجأة من كثيرين داخل الولايات المتحدة وخارجها بفوز دونالد ترامب وتنصيبه يوم الجمعة الماضي الرئيس الأميركي الـ45. تضعنا هذه النتيجة أمام حقيقتين: الأولى أن النظام السياسي الأميركي حقق نجاحاً ليس مسبوقاً بانتظام انتقال السلطة فيه من جورج واشنطن عام 1789 وحتى دونالد ترامب هذا العام، ما يعني استقرار عملية انتقال السلطة طوال 228 سنة متصلة حتى الآن. ولم يؤثر في هذا الاستقرار المتصل انفجار الحرب الأهلية عام 1860 في عهد إبراهام لينكولن، وهي حرب استمرت خمس سنوات، انتهت باغتيال لينكولن. وهذا إنجاز سياسي كبير في نظام جمهوري ظل منذ المصادقة على الدستور عام 1787 يراكم نجاحاته المتواصلة من دون توقف. ولا يبدو وجه الإنجاز هنا في مراكمة النجاحات السياسية والاقتصادية فحسب، بل في تزاوج هذه المراكمة مع استقرار سياسي استمر وترسخ مع الزمن على رغم اختلاف المراحل التاريخية، محلياً وعالمياً، على مدى أكثر من قرنين من الزمن، وعلى رغم كل الحروب والأزمات التي عرفها العالم، وعرفتها الولايات المتحدة.
اللافت في كل ذلك أنه خلال عمليات الانتقال المتتالية كان الالتزام بمقتضيات الدستور، وبالإجراءات الدستورية، والتقاليد السياسية التي تحكم العلاقة بين مؤسسات السلطة، لا يترسخ فقط، بل يتطور مع الوقت. وليس أدل على ذلك من حكاية «العبد» الأميركي، دريد سكوت، في القرن الـ19، وحكاية باراك أوباما في بداية القرن الـ21. الأول رفضت المحكمة العليا الأميركية حقه برفع قضية يطالب فيها باستعادة حريته على أساس من الدستور الأميركي الذي ينص على أن جميع البشر خلقوا متساوين. إذا كان الدستور ينص على ذلك، فلماذا إذاً رفضت المحكمة حق الرجل في المقاضاة على هذا الأساس؟ لأن سكوت كما تقول: «ليس إنساناً، وإنما سلعة» تباع وتشترى في السوق، وبالتالي لا تشمله نصوص الدستور المتعلقة بهذه القضية. لاحظ هنا الحس العنصري الحاد الذي كان مهيمناً على المجتمع الأميركي، واستمر حتى أواخر ستينات القرن الماضي. لكن لاحظ أيضاً كيف اختلفت حكاية أوباما، وهو من أصول أفريقية مثل سكوت؟ وكيف انتهت بأن ختم حياته السياسية يوم الجمعة الماضي وهو يحتل الترتيب الـ44 على قائمة الرؤساء الأميركيين. ولأنه كان رئيساً فقد امتلك حق ترشيح قضاة للمحكمة العليا نفسها التي رفضت قبل أكثر من 140 سنة الاعتراف بإنسانية سكوت، ومن ثم بحقه في الحرية كإنسان فقط، فضلاً عن حقه في الطموح لدخول البيت الأبيض كرئيس أميركي أسود. ولعله من الواضح ما يقوله اختلاف حكاية الرجلين عن حجم التحول الاجتماعي والسياسي الذي حصل للمجتمع الأميركي.
هذا يقودنا للحقيقة الثانية التي أفصح عنها يوم تنصيب ترامب. وهي أن الديموقراطية التي أوصلت رموز المؤسسة الأميركية ابتداء من جورج واشنطن، وإبراهام لينكولن، مروراً بفيتزجيرالد روزفلت، ودوايت آيزينهاور، وصولاً إلى أوباما، هي التي أيضاً أوصلت ترامب إلى البيت الأبيض. وعلى هذا الأساس، فقد حصل الرجل يوم الجمعة الماضي على كل حقوق التنصيب التي يقتضيها الدستور، وتفرضها التقاليد السياسية المتوارثة. وتم الالتزام بكل ذلك على رغم أن ترامب ترشح في الانتخابات من خارج مؤسسة الحكم، وخارج التقاليد السياسية لهذه المؤسسة الضخمة والعريقة. ليس هذا وحسب، بل وعلى رغم أن ترامب ترشح وفاز على رأس موجة مناهضة لمؤسسة الحكم ذاتها، وبالتالي على رغم أنه لا يحظى بدعم هذه المؤسسة وأحزابها ورموزها، ولا بدعم الأقليات، ولا يمثل تماماً حتى الحزب الجمهوري الذي فاز باسمه، فضلاً عن أنه في حال صدام تتصاعد مع الحزب الديموقراطي المعارض، ومع الإعلام المعروف بقوته ووزنه السياسيين، ومع المجتمع المدني، وهو يتكامل مع المؤسسة. من هنا كانت مفاجأة الجميع بأن ترامب في خطاب القسم استهدف مؤسسة الحكم التي كان يخطب في إطار حفلة تنصيبها له. يقول في إحدى فقرات الخطاب:
«الاحتفال اليوم له معنى خاص، لأن ما يحصل في هذا الاحتفال ليس انتقالاً للسلطة من إدارة لأخرى، أو من حزب لآخر. ما يحصل هو أننا ننقل السلطة من واشنطن دي سي، إليكم أيها الشعب». ثم يضيف بأنه «خلال زمن طال كثيراً ظلت جماعة صغيرة في عاصمة دولتنا تقطف خيرات الحكومة، والشعب يتحمل تكاليف ذلك. واشنطن تزدهر، والشعب لا يشارك في ثروتها... المؤسسة حمت نفسها، وليس مواطنو بلدنا». لكن يقول ترامب: «هذا اليوم العشرون من كانون الثاني (يناير) 2017 سيبقى في الذاكرة على أنه اليوم الذي استعاد فيه الشعب حكم هذه الأمة». كان يقول ذلك، وأكثر، ورموز مؤسسة الحكم يجلسون خلفه، متهماً إياهم ضمناً في خطابه بأنهم اختطفوا الحكم وخيراته من الناس، وأنه يتعهد بوضع حد لهذا الخلل السياسي الذي كلف الأمة كثيراً.
هذا خطاب لم تعتده واشنطن ولا مؤسسة الحكم فيها من قبل. وهو خطاب يؤشر إلى أن الولايات المتحدة ربما تدلف، ومعها العالم، إلى مرحلة مختلفة من تاريخها. مرحلة تنذر بصدامات قد لا تكون محدودة، لا داخل الولايات المتحدة ولا خارجها. فالرئيس الجديد يتبنى، على الأقل لفظياً حتى الآن، شعبوية فاقعة تتصادم رأساً مع طبيعة المؤسسة، ولحمتها الليبرالية، وكلاهما يرفض ممارسة السياسة في الشارع، وخارج منطق المؤسسة وتقاليدها. ثم إنها شعبوية تنطوي على انعزالية لا تتفق مع حقيقة أن أميركا باتت كعبة الرأسمالية العالمية، وهي حصن الدفاع الأول عنها. كيف سيوفق ترامب بين أميركا الرأسمالية، وما تتطلبه من تفاعل وتبادل مع أطراف هذه الرأسمالية، وبين أن تكون «أميركا أولاً» في كل سياساته الداخلية الخارجية؟ داخلياً هل يمثل ترامب الشارع فعلاً في مواجهة المؤسسة؟ تاريخه وانتماؤه الطبقي يقولان عكس ذلك. هو لا يمثل مكونات الموجة الشعبية المناهضة لمؤسسة الحكم. فالمكون الرئيس لهذه الموجة في أغلبهم من الطبقة المتوسطة الدنيا، والطبقة العاملة. في حين أن ترامب ينتمي الى طبقة أصحاب رأس المال الكبير في المجتمع الأميركي. وهو في هذا الجانب يشترك مع الحزب الجمهوري. لكن خطابه يتصادم مع التوجه السياسي للحزب، وتوجه المؤسسة. هنا مفارقة لا أحد يعرف إلى ماذا يمكن أن تقود. فالرجل ليس له تاريخ أو تجربة سياسية سابقة يمكن البناء عليها.
يقول آليكسس دي توكويفيل، أشهر من كتب عن الديموقراطية الأميركية، بأن ما يهدد الحكومات بالفناء هو إما الضعف، أو الطغيان. في الحال الأولى تفقد الحكومة السلطة، وفي الثانية تنتزع منها. وأثبتت التجربة أن الحكومة الأميركية ليست ضعيفة. وبالتالي فمصدر التهديد، كما ينقل توكويفيل عن توماس جيفرسون أحد الآباء المؤسسين، قد يأتي من الطغيان قبل غيره، وأن هذا قد يبدأ من السلطة التشريعية (الكونغرس)، وتلحق بها السلطة التنفيذية. بهذا المعنى يكون فوز ترامب برأس السلطة التنفيذية مصدر التهديد، لكنه يبدو معزولاً عن السلطة التشريعية، وعن الغالبية الشعبية. هو فوز غير مسبوق، يؤشر لمرحلة مختلفة تنتظر لحظة انكشاف حقيقتها، وما يمكن أن تقود إليه أميركياً وعالمياً.
المصدر : صحيفة الحياة