بقلم : راجح الخوري
عندما جاء الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون إلى بيروت المنكوبة بعد ساعات من الانفجار الكارثي، الذي دمر المرفأ ونصف العاصمة، وقتل ما يناهز 200 شهيد، وجرح أكثر من ستة آلاف، وشرّد أكثر من 300 ألف مواطن، كان يعرف جيداً وبكثير من التأثر والألم، أنه جاء يتفقد حطامين: حطام المرفأ والمدينة، وحطام المسؤولية في دولة فاسدة مسؤولة عن الكارثة، مهما كانت أسبابها.
وعندما يعود ماكرون إلى بيروت، الاثنين المقبل، ليشارك في احتفال المئوية الأولى لإعلان «لبنان الكبير»، ويجري محادثات تتركز على إعادة إعمار ما دمره الانفجار، وعلى تكرار الدفع في اتجاه حكومة إنقاذ، وهو ما كان دعا إليه في زيارته الأخيرة، ستتضاعف خيبته، عندما يجد أن لبنان الذي بات غارقاً في فجوتين؛ فجوة المرفأ والمدينة المدمرة، وفجوة دولة الركام الغائبة عن مسؤولياتها وسط حطام المنظومة الفاسدة، التي كانت سبباً في كارثة العصر، وهي السبب في انهيار البلد، قد صار في «مئوية لبنان الأسير».
ليس في الأمر أي مبالغة عندما يكرر جان - إيف لودريان وزير الخارجية، يوم الخميس الماضي، دعوة فرنسا إلى تشكيل حكومة سريعة، والبدء بإصلاحات عاجلة، محذراً من أنه إذا لم يتمّ ذلك فإن البلد يواجه خطر الزوال: «إن الخطر اليوم هو اختفاء لبنان، لذلك يجب اتخاذ هذه الإجراءات»!
ماكرون الذي سيلقي خطاباً مهماً في الاحتفال المذكور، كان في زيارته التاريخية الأولى فور وقوع الانفجار، قد نزل إلى المرفأ، وجال في شوارع المدينة المدمرة دامعاً وحزيناً، وواسى الناس المفجوعين والمنكوبين والنازفين وحضنهم، بينما لم يجرؤ مسؤول لبناني واحد على مرافقته، وحتى على النزول إلى الشوارع والأحياء الممزقة حتى اليوم، بما يجعل من الدولة اللبنانية والمسؤولين مجرد ركام سياسي يطالب الناس بإزالته!
ليس لأنهم مسؤولون عن الكارثة، وعن إيصال البلد إلى الإفلاس، ولا لأنهم لم ينزلوا إلى الأحياء وتفقد المصابين كما فعل ماكرون، بل لأنهم في حال من الإنكار والتعامي، إلى درجة أنهم في حين يغرق لبنان في مأتم كبير، حيث هناك من يدفن ولداً، ومن يبحث عن مفقود ابتلعه الانفجار، ومن يبكي عمراً تهدم فوق ركام منزله، كانوا ولا يزالون في سوق نخاسة سياسية، متصارعة حول تشكيل حكومة جديدة، ولكن وفق معايير المحاصصة السياسية والشروط والتنازع على المقاعد الوزارية، لتبدو المنظومة السياسية الضحلة، كمن يقيم عرساً حكومياً فوق مقابر اللبنانيين، الذين إن لم يقتلهم الانفجار، فقد دمّر فيهم الأمل، وأغرقهم في قاع اليأس والألم.
لودريان قال، يوم الثلاثاء الماضي، إن ماكرون سيطالب بالتغيير الذي ركز عليه في لقائه الأول مع المسؤولين ومع ممثلي كل الأفرقاء السياسيين، وأن كارثة المرفأ ليست ذريعة لإبقاء لبنان على شفير الهاوية، ولكن ليس هناك أي مؤشرات على أن المسؤولين في البلد المنكوب استوعبوا ذلك، بل يبدو أنهم يبتلعون ما يشكّل أي إهانة توجه لهم، وكذلك دول العالم التي هبّت لتقديم المساعدات الطبية والغذائية والأدوية والمستشفيات، ودائماً وفق شرط مُذلّ للدولة، أي الإصرار على تقديم المساعدات مباشرة إلى الشعب، وليس إلى أي جهة في الدولة، ما يشكّل اتهاماً صريحاً لها بالنهب وعدم الأمانة، فالذين أفلسوا البلد وتمادوا في نهبه، لا يمكن أن تأتمنهم الدول على إيصال حبة دواء لأرملة جريح تحت ركام بيتها!
يا للفضيحة فعلاً، لقد بدا الأمر بمثابة سحب دولي للشرعية عن هذا الطقم السياسي الذي تجاهل دعوة ماكرون ودول العالم قبله إلى التغيير والإصلاح، كشرط ضروري لا مفرّ منه لتقديم المساعدة والدعم، ولكن ذلك لم ولن يلقى أي قبول منهم، وسيصل ماكرون يوم الاثنين، ليحسَّ بالتالي بأنه لم يأتِ للاحتفال بمئوية لبنان الكبير، بل بمئوية لبنان الفقير، لبنان الضرير، ولبنان الأسير، وبئس المصير!
يوم الأربعاء الماضي، أرسل ماكرون، خريطة طريق إلى السياسيين اللبنانيين تحدد الإصلاحات السياسية والمالية اللازمة لفتح باب المساعدات الخارجية وإنقاذ لبنان من أزمات مصيرية ومن الانهيار الاقتصادي، تضمنت صفحتين، وسلّمها السفير الفرنسي إلى المسؤولين، وفيها إجراءات مفصلة يطالب بها المانحون الأجانب، وتدعو إلى تعيين حكومة مؤقتة قادرة على تنفيذ إصلاحات عاجلة، وإجراء انتخابات تشريعية مبكرة في غضون عام، وتتحدث عن أن الأولوية يجب أن تكون لتشكيل سريع للحكومة، لتلافي فراغ السلطة الذي يترك لبنان يغوص أكثر في الأزمة، وتشدد على ضرورة إجراء تدقيق فوري وكامل في أموال الدولة المنهوبة وإصلاح قطاع الكهرباء.
«الشرق الأوسط» اطلعت على تقارير غربية تفيد بأن ماكرون أجرى سلسلة من الاتصالات الحثيثة مع زعماء العالم فور عودته من بيروت، تمهيداً لخلق ورشة دولية تتعاون في انتشال لبنان، ومنعه من أن يتهاوى ويصبح دولة فاشلة، وتحدث مع الرئيس دونالد ترمب والزعماء الأوروبيين، ومع الرئيس فلاديمير بوتين لجهة حضه على كبح أي سلبية سورية في هذا الاتجاه، ولم يوفر حتى حسن روحاني؛ فاتصل به على خلفية التصريحات السلبية المستنكرة، التي أدلى بها محمد جواد ظريف، الذي كان قد وصل إلى بيروت بالتزامن تقريباً مع زيارة ماكرون، لمجرد توجيه الانتقاد إلى دعوته تشكيل حكومة حياد إصلاحية، باعتبار أن «حزب الله» هو الذي استفرد بتشكيل الحكومة المستقيلة!
كل هذه الجهود الفرنسية المندفعة لمحاولة إنقاذ لبنان، لم تغيّر شيئاً من مسالك السلطة اللبنانية، فمن جهة سارعت إلى التمسك بإجراء تحقيق محلي، حيث قال الرئيس ميشال عون إن التحقيق الدولي مضيعة للوقت، ليتبيّن أن وراء انفجار المرفأ تعقيدات هائلة وأسئلة كبيرة تمتد من أوكرانيا إلى موزمبيق مروراً بتركيا، ومن الذي جاء بباخرة «نترات الأمونيا» (2750 طناً) إلى بيروت؟ وكيف سُمِح لها بتفريغ حمولتها الخطرة؟ ولماذا غرقَتْ؟ ولماذا أُلغي البند عن خطورتها من جدول أعمال المجلس الأعلى للدفاع، الذي يرأسه عون، والذي عُقِد في 20 يونيو (حزيران)، أي قبل 14 يوماً من الانفجار؟ ولماذا أجّل حسان دياب زيارته لتفقد المرفأ بعد الحديث عن وجود المواد المتفجرة والخطرة؟ ثم لماذا استبعد «حزب الله» والدولة منذ اللحظة الأولى، أي إشارة إلى إسرائيل، رغم أن نتنياهو كان عرض خريطة خلال خطابه في الجمعية العامة للأمم المتحدة، قال إنها لمخازن أسلحة وصواريخ «حزب الله»، وبينها المرفأ ومحيط المطار؟
على المقلب السياسي، تذهب نصائح ماكرون ودعوة دول العالم إلى تشكيل حكومة حيادية إصلاحية، إلى أدراج حسابات المحاصصة، والتمسك بحكومة من المنظومة السياسية الفاسدة عينها، وهكذا فاجأ الرئيس سعد الحريري الذين يحاولون تركيب حكومة على هواهم بالإعلان يوم الأربعاء الماضي، عن عدم رغبته في الترشح لتشكيل الحكومة، لكن بيانه جاء اتهامياً موجهاً إلى جبران باسيل صهر عون، وإن لم يسمّه، عندما قال إنهم «لا يزالون في حال من الإنكار، لأنهم يرون في الكارثة فرصة جديدة للابتزاز على قاعدة أهدافهم الواهمة سلطوياً، وحتى الوهم في تحقيق أحلام شخصية مفترضة في سلطة لاحقة»، وهذه إشارة واضحة إلى مساعي باسيل النافرة ليرث عون بعد انتهاء ولايته!
في موازاة ذلك، بدا استمهال عون في تحديد موعد للاستشارات النيابية الملزمة لتكليف شخصية سنية تشكيل حكومة جديدة، مجرد إعادة لبدعة تناقض الدستور تماماً، بحجة أن المشاورات التي يتمهل في إجرائها قبل الاستشارات هدفها تسهيل تشكيل الحكومة، لكنها أفضت إلى أن يقوم «حزب الله» بتشكيل حكومة حسان دياب الفاشلة والمستقيلة كما هو معروف!
إزاء هذا، يتصاعد الغضب في الشارع السياسي السني، حيث تقول الأوساط الإسلامية إن «الرئيس عون لا يؤمن بالدستور ولا بالقوانين، وإن تجاربه في الحكم تؤكد أنه يطبق قوانينه الخاصة متجاوزاً المؤسسات والدستور، من هنا هو وصهره جبران باسيل في صراع دائم مع المكونات السياسية كافة، وإن العقلية العونية في الحكم يصعب التعامل معها»!
وهكذا سيصل ماكرون، الاثنين، إلى بيروت، حيث كان قد أبلغ الجميع في زيارته الماضية، ما مفاده أن هذا هو الحلّ واللهم اشهد أنني قد بلغت، ليجد أن المشاورات لتشكيل حكومة إنقاذ لم تبدأ، وهي عالقة عند تحالف عون والثنائية الشيعية، التي تصر على حكومة سياسية من المنظومة الحزبية إياها، ولهذا سيغادر صارخاً: «فعلاً اللهم اشهد أني قد بلغت»!