بقلم : راجح الخوري
في الذكرى الأولى، يوم الأربعاء الماضي، لانفجار مرفأ بيروت، الذي دمّر العاصمة ومزّق قلوب اللبنانيين، بدت الدولة اللبنانية ومسؤولوها أشبه تماماً بذلك الحطام البشع والوحشي الذي ينتصب في المرفأ مذكراً بالهول، وهو إهراءات القمح التي تحوطها مساحات سوداء من الدمار والحرائق.
كان الانفجار الأكبر الثالث غير النووي بعد قنبلتي هيروشيما وناغازاكي، ومنذ تلك اللحظة المتوحشة، بدا أن هذه الدولة الهشة ومسؤوليها من غير هذا العالم، ومن خارج الأخلاق والطبيعة البشرية والحسّ الإنساني، وبدا ضمناً أن هناك حذراً وخوفاً عند هؤلاء، وقد أحس كثير منهم أنهم مسؤولون عن الجريمة مباشرة أو تعامياً، لأنهم تسببوا عبر إهمالهم أو تورطهم في التعامي عن وجود كمية هائلة من نيترات الأمونيوم يمكن أن تدمر بيروت كلها.
لن ينسى اللبنانيون وأهالي الضحايا وآلاف الجرحى، أن الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وصل إلى بيروت وتفقد المرفأ والشوارع الممزقة وذهب إلى بيوت المنكوبين متفقداً، في حين عندما سئل أحد كبار المسؤولين في دولة المساخر، لماذا لم تنزل لتتفقد مكان الانفجار الذي مزق بيروت وقتل أكثر من 200 ضحية، لم يتردد أو يخجل من القول: «وما الفائدة من ذهابي لمشاهدة الأبنية والشوارع المدمرة»، لكن كان من الواضح تماماً أنه ليس هناك أحد من المسؤولين يجرؤ على مواجهة غضب اللبنانيين في الشوارع، فهذه دولة قبيحة من خارج هذا البلد المنكوب.
كان هذا قبل عام تماماً في 4 أغسطس (آب) 2020 الذي حفر جروحاً عميقة لن تنسى، في وجدان اللبنانيين وأرواحهم، ولهذا جاءت الذكرى السنوية للكارثة تحمل سقوط هذه الدولة 3 مرات على الأقلّ أخلاقياً وقانونياً ودستورياً، وعلى الصعيد الشعبي الداخلي حيث يرفض اللبنانيون وجودها، وكذلك على الصعيد الخارج والدولي وأمام 40 دولة حضرت المؤتمر الدولي، الذي رعاه ماكرون في باريس عبر تقنية الإنترنت، وكان أصلاً يريد أن يعقده من بيروت، لو كان هناك حكومة في بيروت، لكن تشكيل الحكومات يبدو مستحيلاً قبل نهاية هذا العهد، بعد اعتذار مصطفى أديب أولاً ثم سعد الحريري، واقتراب نجيب ميقاتي من الاعتذار، بسبب إصرار الرئيس ميشال عون على المحاصصة والحصول على وزارة الداخلية، والسعي للإمساك بالثلث المعطل.
- السقوط الأول للدولة ومسؤوليها يتمثل عملياً في محاولات طمس التحقيق في الجريمة المروعة وعرقلة عمل المحققين، ورفع الحصانات، التي تمنع القضاء من التحقيق مع السياسيين، وهو ما ليس موجوداً في أي دولة في مجاهل الدنيا.
عندما حصل الانفجار في 4 أغسطس الماضي، قال عون أعدكم بأن نتائج التحقيق ستظهر في خلال 5 أيام، ولكن عندما طلب سعد الحريري ووليد جنبلاط وسمير جعجع، بضرورة تشكيل لجنة تحقيق دولية أو عربية للكشف عن الأسباب التي أدت إلى وقوع الكارثة، سارع الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله إلى رفض الفكرة، لكن الغريب أن عون سارع بدوره إلى القول: «إن المطالبة بالتحقيق الدولي الهدف منه تضييع الحقيقة، ولا معنى لأي حكم إذا طال صدوره، والقضاء يجب أن يكون سريعاً، لأن العدالة المتأخرة ليست بعدالة»، ولكن أين النتيجة السريعة التي وعد عون بها بعد 5 أيام؟!
المعروف الآن أن جولات التحقيق التي أجراها القاضي طارق البيطار على مدى 5 أشهر بعد تسلمه الملف، خلفاً للقاضي فادي صوان، قادته إلى كشف خيوط مهمة، ومكّنته من تحديد المسؤولين الذي أهملوا عن قصد وجود آلاف الأطنان من نيترات الأمونيوم في المرفأ، من سياسيين وعسكريين وأمنيين وإداريين، كما كشفت ملابسات الرحلة الغامضة لباخرة الأمونيوم من جورجيا إلى بيروت، ومن يقف وراء هذه العملية ولحساب من حصلت، لكن هناك قلقاً متزايداً على نتيجة التحقيق بسبب الحصار السياسي الذي يفرض على مسار التحقيق، ما ينذر بإدخال الملف القضائي حقل الألغام السياسية والحصانات والحمايات السياسية للمدعى عليهم من نواب ووزراء وقادة أمنيين وعسكريين.
- السقوط الثاني للدولة ومسؤوليها، أنها عوملت باحتقار وفقدت الاعتراف بأي من سياسييها، عندما رفض الرأي العام والهيئات اللبنانية التي نظمت سلسلة واسعة من الاحتفالات يوم الأربعاء الماضي في ذكرى الانفجار، حضور أي من المسؤولين من الدولة، بما يعني ازدراء وسقوط شعبية الذين في موقع المسؤولية.
- السقوط الثالث للدولة، جاء في المؤتمر الدولي الذي عقده ماكرون والأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش، وحضره الرئيس الأميركي جو بايدن، إضافة إلى ممثلي 40 دولة أوروبية وعربية، والمديرة العامة لصندوق النقد الدولي كريستالينا غورغييفا، وكان عون جالساً يتابع وقائع المؤتمر، وكلمات المسؤولين فيه التي شكّلت عملياً إسقاطاً دولياً صريحاً للدولة، عندما أجمعت على أن المساعدات التي قدرت أصلاً بقيمة 350 مليون دولار، ستأتي استجابة لحاجات شعب لبنان، لكن عبر منظمات الأمم المتحدة وليس عبر الدولة المتهمة بالفساد والنهب والسرقة، والتي تعرقل تشكيل حكومة إصلاحية تنقذ لبنان من الجوع والدمار، وفي هذا السياق كانت أميركا وفرنسا قد أفهمتا عون والمسؤولين مراراً أنهم لن يحصلوا على قرش واحد قبل تشكيل حكومة تنخرط في تنفيذ برنامج إصلاحي حقيقي.
مؤتمر دولي يحضره رئيس الجمهورية ميشال عون ويتحدث فيه، لكنه يستمع خلاله إلى سيل من كلمات ومواقف الدول، التي لا تطالب بتشكيل حكومة فحسب، بل تعلن أن ما ستقدمه من مساعدات ستأتي مباشرة إلى الشعب لأنه لا ثقة بالدولة ونزاهتها!
- السقوط الرابع كان مروعاً جداً عندما نشرت منظمة «هيومن رايتس واتش»، مساء الثلاثاء، تقريراً اتهمت فيه السلطات اللبنانية بالإهمال جنائياً وانتهاك الحق في الحياة، وأوصت بفرض عقوبات على المسؤولين وبإجراء الأمم المتحدة تحقيقاً مستقلاً في كارثة المرفأ، والأدهى إشارة التقرير إلى وجود أدلة قوية تشير إلى أن بعض المسؤولين اللبنانيين، علموا وقبلوا ضمناً بالمخاطر التي تشكلها مادة نيترات الأمونيوم، التي كانت مخزنة في المرفأ، وأن بعض مسؤولي الحكومة توقعوا الموت الذي قد ينجم عن وجود النيترات، وقبلوا ضمناً باحتمال حدوث وفيات!
يقول التقرير إنه اطلع على وثيقة قبل أسبوعين من الانفجار تحذر رئيس الجمهورية ميشال عون ورئيس الوزراء حسان دياب من المخاطر التي تشكلها الكيماويات المخزنة، ومن أنها قد تدمر العاصمة، فماذا فعلا؟ لا شيء!
بهذا وجّهت «هيومن رايس ووتش» أصابع الاتهام لكل من عون ودياب ومدير جهاز أمن الدولة طوني صليبا، وقائد الجيش السابق جان قهوجي، والوزراء علي حسن الخليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس، واعتبرت أنهم فشلوا في اتخاذ الإجراءات اللازمة لحماية الناس، ورغم هذا يرفع المسؤولون جدار الحصانات السياسية لعرقلة مسار التحقيق، والتعمية على جريمة العصر، تماماً كما تمت التعمية على عشرات من عمليات الاغتيال التي عرفها لبنان.
والسؤال... كيف واجه عون أولاً عزل المجتمع الدولي لدور الدولة اللبنانية التي يرأسها؟ ثم كيف واجه زعماء 40 دولة، كانوا قد قرأوا بالتأكيد جيداً تقرير «هيومن رايتس ووتش» الذي وجّه إليه اتهاماً مباشراً بـ«الإهمال الجنائي»؟!