بقلم عبد المنعم سعيد
لم يمضِ وقت طويل منذ نشرت مقالي «المسألة الإسرائيلية» في هذا المقام بتاريخ 28 ديسمبر (كانون الأول) 2023، وكان المقترب الأساسي فيها قادماً من «المسألة الفلسطينية» والتي منها تخرج التفاعلات العربية - الإسرائيلية. اعتمد المقال كثيراً على مقال نشرته «نيويورك تايمز» بعنوان «ماذا بحق العالم يحدث في إسرائيل؟»، وفيه أشار إلى التعقيد الجاري داخل الأرض الممتدة من نهر الأردن إلى البحر المتوسط، حيث ميز ما بين أربعة أنواع من التفاعلات «اليهود واليهود» و«اليهود والعرب الإسرائيليين» و«اليهود والفلسطينيين» و«الفلسطينيين والفلسطينيين». المدهش، أن المعالجة في مقالنا اعتماداً على ما اعتدنا عليه ركزت على التفاعلات الثلاثة الأخيرة، بينما كان التفاعل الأول بين اليهود واليهود يسفر عن جوهر «المسألة الإسرائيلية» التي تبدت خلال الأسابيع الأخيرة عندما انفجرت الساحة الإسرائيلية بالمظاهرات الاحتجاجية على محاولة الحكومة الإسرائيلية لتغيير الأوضاع القانونية للمحكمة العليا بحيث تكون خاضعة لسيطرة البرلمان (الكنيسيت) ومن ثم للأغلبية التي يتمتع بها الائتلاف الحكومي الحالي بزعامة بنيامين نتنياهو.
وبعد قرابة شهرين من التظاهر الذي شارك فيه أكثر من 600 ألف متظاهر ضد الحكومة الإسرائيلية، نكتشف أن الجمهور الإسرائيل لم يجد وسيلة «ديمقراطية» للتعبير عن رفضه سعي حكومة نتنياهو من أجل إخضاع المحكمة العليا إلى سلطة «الكنيسيت» سوى الخروج إلى الشارع. ونعلم أن الحكومة سعت إلى ذلك من أجل إحداث خلل جسيم في التوازن بين السلطة التنفيذية المالكة للأغلبية البرلمانية والسلطة القضائية، ومن ثم تمنع اللجوء إلى سلطة عليا في حالة تجاوز القوانين الأساسية للبلاد. وهنا نجد أن أصل المسألة هو أن إسرائيل دولة بلا دستور وإنما لديها نوع من القانون الأساسي عند إنشاء الدولة قام على توافق مؤقت على قوانين أساسية تؤكد العلمانية، وهو ما تريد الجماعة الدينية في الحكومة أن تغيره بالانتقال من التشريع البشري إلى «الشريعة» اليهودية. كان الانقسام الإسرائيلي مثيراً لتعبيرات «الحرب الأهلية» والمشابهة بين إسرائيل ولبنان؛ وأخيراً وافق نتنياهو بعد أن طرد وزير الدفاع واشتد التظاهر والإضراب على تعليق التصويت على قانون التغيير مؤقتاً.
جذور ما يحدث تعود إلى عام 2018 عندما أعلنت إسرائيل فجأة أنها تمثل «الدولة القومية للشعب اليهودي»، وصدّق الكنيسيت على هذا المعني؟ كانت هناك رابطة بين هذه الخطوة والخطوات السابقة سواء كانت اعتبار القدس الموحدة عاصمة لإسرائيل، أو التوسع الاستيطاني المحموم للضفة الغربية. لم يكن متصوراً قبل ربع قرن، فضلاً عن سبعة عقود سابقة، أن تقدِم الدولة العبرية على هذه الخطوات. خلاصة ذلك، أنها تعبّر عن حالة من الجرأة الإمبريالية الإسرائيلية التي تجعلها تسعى إلى تحقيق أحلام دينية كان من الظن أن فيها من الجنون؛ ما يجعلها تستمر أحلاماً وكفى تعبر عنها مجموعة من التيارات المحافظة المتطرفة التي لا تخلو منها دولة. أكثر من هذا أهمية أن هذه التيارات باتت تفرز أحلاماً جديدة من المرجح أنها سوف تنضم إلى سوابقها في القريب العاجل لكي تدخل في التيار الرئيسي للسياسة الإسرائيلية، وفي المقدمة منها ضم مرتفعات الجولان السورية المحتلة إلى إسرائيل، وكذلك ضم أراضي المستوطنات الإسرائيلية في الضفة الغربية إلى إسرائيل تمهيداً لضم معظم أراضي الضفة الغربية الواقعة تحت التصنيف «سي». كل هذه الخطوات نبتت من قلب «السلفية» الإسرائيلية التي تريد لإسرائيل أن تعيش على أساس من «الشريعة» التوراتية في النظر إلى الدولة ومن يعيش فيها من عرب يشكلون أكثر من 21 في المائة من تعداد الدولة.
الذين تابعوا الدولة العبرية منذ نشأتها تعلموا أن هناك انقسامات داخل الدولة، وكان الشائع منها الانقسام ما بين الأشكنازي القادم من أوروبا والسفاردي القادم من الدول العربية والشرق أوسطية؛ وهو انقسام على أساس المصدر والثقافة، وكما هو أيضاً على أساس طبقي وسياسي. الانقسام الآخر كان بين حزبَي العمل والليكود اللذين مثّلا اليسار واليمين، وبين تل أبيب والقدس، وباختصار بين الليبراليين والمحافظين. هذه الانقسامات لم تكن مختلفة على علمانية الدولة وقانونها الأساسي، ولكن بعد أكثر من عِقد من السنوات الأخيرة، فإن طائفة ثالثة دخلت إلى الساحة تختلف عن الجميع في أنها سلفية تنظر إلى الدولة من منظور «التوراة»، الذي يجعل الجغرافيا من النهر إلى البحر ملكاً للشعب اليهودي؛ ومعه استحالة التعايش مع الفلسطينيين. ولكن ما هو أهم من ذلك هو أنه في هذه المساحة من الأرض لا بد للشعب «اليهودي» أن يكون يهودياً حقاً وفقاً لحرفيات الشريعة اليهودية. الائتلاف الحكومي الحالي لا يختلف كثيراً عن الجماعات السلفية التي انتشرت في الشرق الأوسط خلال ما سُمي بالربيع العربي؛ ويظهر هذه المرة فيما يشبه الربيع الإسرائيلي قائماً على نفس التقاليد القائمة على التدخل في الشؤون الشخصية للمواطنين في الملبس والمأكل والزيجات والجنازات.
لعل ذلك يفسر إلى حد كبير ردة الفعل الهائلة في نقدها من جانب الأحزاب والمجتمع الأهلي الإسرائيلي الذي وجد العملية الانتخابية قد أفضت إلى نتائج جوهرها السعي إلى تغيير طبيعة الدولة في مشابهة غير بعيدة عما حدث في دول عربية في أعقاب انفراد جماعة الإخوان المسلمين وأتباعها بالسلطة. ولعل ذلك تحديداً هو الذي أدى إلى حالة الانزعاج التي تلبست اليهود في الولايات المتحدة وأوروبا، وكلاً من واشنطن والعواصم الأوروبية التي وجدت نفسها تواجه نوعاً من «الأصولية» الأرثوذوكسية اليهودية، والتي تختلف من جانب آخر مع التيار «الإصلاحي» الغالب على يهود أوروبا وأميركا. المدهش هو أن صعود «السلفية» اليهودية في إسرائيل جاء بعد أن نجحت توجهات إصلاحية عربية في مواجهة التيارات السلفية، سواء من خلال إقصائها عن السلطة أو من خلال الحرب ضدها عندما تحولت إلى جماعات إرهابية.
هل معنى ذلك أن المواجهة سوف تكون حتمية بين «المتظاهرين» الإصلاحيين والحكومة الإسرائيلية التي قبلت إنشاء ميليشيا جديدة للحرس الوطني يمكن استخدامها في الداخل وضد المواطنين الإسرائيليين؟ والحقيقة، أنه من الصعب التقدير عند هذه المرحلة من التطور في السياسة الإسرائيلية، ولا يمكن تجاهل تراجع نتنياهو والقبول المؤقت بوقف محاولته الانقلاب على السلطة القضائية إلا على أساس القبول بوجود توازن للقوى لا يسمح له بالمضي في هذه الطريق. ولكن الطبيعة السلفية اليهودية أو حتى العربية قبلها لا يمكنها السماح بمثل هذه الهدنة المؤقتة؛ والمرجح هو أن نتنياهو وحزب الليكود من ورائه سوف يستخدم الموقف لمراجعة الجماعة السلفية في الائتلاف الحاكم. نتنياهو ليس هو الشخص الذي يغضب يهود وحكومات الولايات المتحدة وأوروبا؛ ولكنه لديه خيار آخر، أن يأخذ جميع النخبة السياسية الإسرائيلية إلى صناديق الاقتراع مرة أخرى لعله يحصل على المزيد من التأييد الشعبي الذي يسمح له بتطبيق برنامجه. مثل ذلك ربما يسمح بمزيد من الوقت، وربما يكون في يد الأقلية العربية ما تفعله لقلب الموازين، ولكن المستقبل سوف يكون مزدحماً بالاحتمالات الصعبة.