بقلم: عبد المنعم سعيد
قبل 10 سنوات تقريباً، وفي 23 يناير (كانون الثاني) 2014 نشرت مقالاً في هذا المقام بعنوان «خطيئة ستيفن كوك»؛ وكان ذلك رداً على الباحث الأميركي ستيفن كوك، مع مجموعة من الدارسين الأميركيين، الذين بذلوا جهوداً جبارة لنقد ما جرى في مصر منذ ثورة 30 يونيو (حزيران) 2023. وبعد 10 سنوات لم يتغير شيء في الجماعة، رغم تغير العالم وإقليم الشرق الأوسط ومصر وحتى الولايات المتحدة. منطلقات ستيفن كوك ورفاقه لم تختلف في شيء عن رؤية نظرية قائمة على أن العالم إما أن يكون ديمقراطياً أو سلطوياً، وفي الأولى يوجد الخير الكثير أخلاقياً ومادياً، وفي الثانية يوجد الخراب المبين فكرياً ومعنوياً. التقسيم شائع في السياسة الخارجية الأميركية، وهو يؤثر في الأزمة العالمية القائمة، التي يغيب عنها وعن صاحبنا معرفة التاريخ العالمي، وتطورات الدول فيه، والأميركي ذاته منذ الثورة الأميركية والحرب الأهلية حتى الآن. المنطلق الثاني هو النظر إلى مصر بدرجة كبيرة من اليقين على أنها طالما تجاوزت ذلك ولم تسمح لـ«الإخوان المسلمين» بحكمها، فإنه لا بد لها أن تكون ذاهبة إلى الهاوية. وفي مقاله الأخير المنشور في دورية «السياسة الخارجية»، يقدم الرجل حزمة كبيرة من المعلومات والأرقام حول الحالة الاقتصادية المصرية مثل التضخم وأسعار العملة المصرية وحجم الديون المصرية ونسبتها إلى الناتج القومي الإجمالي؛ ويعقبها بقدر من السخرية من عملية التنمية المصرية؛ ولا ينتهي إلا على وهن النفوذ الإقليمي المصري، مدللاً على ذلك بالتعامل مع الأزمة السودانية الراهنة، رغم أنه لا يشير إلى مدى نجاح الولايات المتحدة وغيرها في الأزمة ذاتها؟!
المعضلة في التعامل مع عمليات الاجتزاء الجراحية وذكر مواصفات الأزمة الاقتصادية في مصر لا يكملها أبداً بأن مصر لم يحدث في تاريخها، لا في السابق ولا في اللاحق، أن عجزت عن دفع ديونها. الأهم من ذلك أن كثيراً من عمى الألوان يجعله لا يلاحظ أن مصر خلال السنوات العشر ضاعفت من حجم المعمور المصري من حوالي 7 في المائة عام 2010 حتى اقترب من 15 في المائة في العام الحالي. خلال الأعوام نفسها لم تحقق مصر أبداً نمواً سلبياً، وإنما حققت نمواً إيجابياً يزيد عن معدل الزيادة السكانية خلال الفترة نفسها، وحققت ذلك خلال أزمة «الكورونا». وظهر ذلك في شبكة المواصلات العظمى التي يمكن ملاحظتها من خلال خرائط «غوغل»، التي بلغت 7000 كم، أي ما يزيد على طول هذه الشبكة منذ بدايات القرن العشرين. المسألة كلها لا تحتاج جهداً بحثياً كبيراً لكي يعرف عضو مجلس الشؤون الخارجية الأميركية أن كل ما يتعلق بالبنية الأساسية المصرية من كهرباء ومواصلات ومياه نقية ومدارس وجامعات ومستشفيات ومطارات وموانئ كلها تضاعفت خلال السنوات العشر نفسها. الديون كان يقابلها أصول وأرصدة، ولذا لا حدث انهيار مالي في البلاد، ولا جرى سحب حسابات وأرصدة من البنوك، رغم أن عدد سكان مصر زاد 20 مليوناً خلال الفترة نفسها.
كان أهم ما جري في مصر هو ذلك التحول التاريخي عندما حدث الانتقال من التركز السكاني حول نهر النيل إلى سواحل البحر الأحمر والأبيض وخلجان سيناء (السويس والعقبة) في تغير لم يحدث منذ قام الخديوي إسماعيل ببناء «القاهرة الخديوية» وحفر قناة السويس وإقامة مدنها الثلاث. الرئيس عبد الفتاح السيسي أنشأ 24 مدينة؛ واخترق الإقليم المصري كله بستة أنفاق عملاقة تربط بين وادي النيل وسيناء. وتم الاختراق نفسه طولياً بربط «مشروع توشكي» في الجنوب باستصلاحات الأراضي الزراعية بإنشاء الدلتا الجديدة على البحر المتوسط جنوب مدينة العلمين الجديدة؛ وباختصار فإنه بحلول عام 2025 سوف تكون مساحة الرقعة الزراعية في مصر قد زادت بمقدار 50 في المائة. كثير من هذه المشروعات كانت مطروحة ومدروسة خلال فترة الرئيس مبارك، وتنفيذها في 10 أعوام كان شهادة قدرة على الإنجاز، خصوصاً أن ذلك جرى وأكثر منه في مجال تحلية المياه وإعادة استخدامها، مع التعامل مع ثلاث أزمات عظمى: الإرهاب و«الكورونا» والحرب الروسية الأوكرانية.
العاصمة الإدارية كانت من ناحيةٍ تلبية لاتجاه القاهرة شرقاً بمدن صغيرة مثل «التجمع الخامس» و«القاهرة الجديدة» و«الرحاب» و«مدينتي» و«بدر» و«الشروق» و«نيو هليوبوليس». ومن ناحية أخرى أنه لم يكن ممكناً وقد أصبحت القاهرة 22 مليون نسمة أن تبقى على حالها ما لم يتم إنشاء عاصمة جديدة عصرية وحديثة وخالية من العشوائيات. ما حدث فعلياً ولا يوجد له ذكر لدى الباحث الأميركي أن ذلك كان إيجابياً للغاية بالنسبة لما بات ذائعاً تسميته في مصر «القاهرة التراثية» التي جرى تطويرها جذرياً في مناطق الفسطاط والقاهرة الفاطمية والأيوبية والفاطمية والحديثة الخديوية. لم يحدث في التاريخ المصري المعاصر أن بني هذا العدد من المراكز الثقافية والمتاحف ومسارح الأوبرا. وفي الوقت نفسه بناء ما يقرب من 2 مليون وحدة سكنية لاستيعاب المواطنين في «العشوائيات» القاهرية الفقيرة، وكلها حديثة ومكتملة الوحدات الصحية والتعليمية. وإضافة لمعلومات السيد كوك، فإنه في الوقت الراهن تجري أكبر عملية لتحديث الريف المصري المكون من 5 آلاف قرية من خلال مبادرة «حياة كريمة».
كل ذلك يعدّ إعادة بناء لدولة عريقة، ولو أن ستيفن عرف فضيلة المقارنة مع ديون الدول الأخرى، والأزمات الاقتصادية التي عاشتها أمم كثيرة لكان أكثر قدرة على فهم ما يحدث في مصر ووضعه ضمن الإطار العالمي. لقد خاب ظن الباحث من قبل، وسوف يخيب الآن ظنه مرة أخرى عندما تخرج مصر والعالم من الأزمة العالمية. وموعدنا عام 2030 عندما ينتهي تنفيذ «رؤية 2030 المصرية».