بقلم: عبد المنعم سعيد
لعل هذا المقال الثالث في سلسلة مقالات «التراجيديا الأمريكية»، وسوف يكون الأخير الآن، ولكن قصة الولايات المتحدة لم تكتمل بعد. الانتخابات المقبلة ربما سوف تكون الأكثر حسمًا في التاريخ المعاصر، ومتابعتها فريضة واجبة لأن الولايات المتحدة ليست قوة عادية في التاريخ الإنسانى لأنها بلغت ذرى لم تصل إليها قوة من قبل من حيث الوصول إلى آخر العالم اقتصاديًّا وعسكريًّا وثقافيًّا.
هي القوة الوحيدة التي استخدمت السلاح النووى، وهى اليوم تقع في صدارة التكنولوجيات الحديثة، كما أنها تقع على حافة صراعات اليوم وفرص السلام فيها، وهى التي تقف على باب البحث عن خلاص الكوكب مما فيه من أمراض لأنها مع الصين أكثر المتسببين فيه. وفى مقالتين سابقتين عرضنا لعمليات الوهن السياسى التي جرت منذ بداية القرن الواحد والعشرين حينما كانت انتخابات آل جور في ناحية وجورج بوش الابن في ناحية أخرى إشهارًا بأعمق الانقسامات في السياسة الأمريكية منذ الحرب الأهلية. صعود «دونالد ترامب» إلى الرئاسة الأمريكية كان إيذانًا بتاريخ سياسى جديد للدولة، حتى بعد أن خرج مجبرًا من البيت الأبيض لأن «الترامبية» بقيت راسخة في المجتمع الأمريكى، وفى ولايات أمريكية بعينها. لم تكن هزيمة ترامب حسمًا لقضية فكرية، إنما كانت معالجة وقتية لقضايا سياسية مركبة يصعب حسم كل منها. لم يعد النظام السياسى الأمريكى قائمًا على حزبين سياسيين يفترقان في مسائل اجتماعية واقتصادية، ولكنهما يجتمعان في توافق عام حول الهوية، والرسالة الأمريكية في العالم وفى التاريخ.
هذا التوافق وصل إلى نهايته؛ وبعد أن كان يأمل العديد من منتقدى دونالد ترامب المحافظين أنه بعد هزيمته، وخاصة في أعقاب تمرد ٦ يناير ٢٠٢٠، سيعود الحزب الجمهورى إلى شكله السابق.
لن تكون رئاسة ترامب في نهاية المطاف أكثر من جملة سياسية عابرة. سوف ينأى الحزب الجمهورى بنفسه عن ترامب والترامبية، ويصبح حزبًا عاديًّا كما كان مرة أخرى بينه وبين الديمقراطيين مساحات من التوافق غير قليلة. لكن هذا الحلم سرعان ما انتهى؛ وبات جلِيًّا أنه ربما كانت رئاسة ترامب هي أول فصل في دراما سياسية أطول وأكثر سوادًا، حيث أصبح الحزب الجمهورى أشد تطرفًا. استمرار هذا وإلى متى سؤال تصعب الإجابة عنه. يتجلى التطرف بطرق كثيرة، ولاسيما في شعبية ترامب الدائمة بين الجمهوريين. شن الموالون لترامب هجمات شرسة ضد المشرعين الجمهوريين الذين صوتوا لمحاكمته لدوره في التمرد، حتى في الوقت الذي نصب فيه الجمهوريون الوطنيون أنفسهم بشغف كخليفة له. تُظهر وسائل الإعلام اليمينية تعصبًا متزايدًا، بينما تُظهر استطلاعات الرأى العام أن ناخبى الحزب الجمهورى يتبنون كذبة ترامب بأن الانتخابات سُرقت منه.
لم تكن إقامة دونالد ترامب في البيت الأبيض لأربع سنوات ضائعة سدى بالنسبة لحزمة من التيارات السياسية الأمريكية التي كانت موجودة على هامش الحياة السياسية الأمريكية ولكنها معه أصبحت في قلبها. خارجيًّا، فإنه خلال الفترة التي حكم فيها الجمهورى «دونالد ترامب»، وخلال سنواته الأربع في الحكم، فإنه كان حريصًا على التأكيد أن الولايات المتحدة عليها التراجع عن التورط في العالم، وأن تكون حريصة على نفسها، حتى من حلفائها، الذين يستغلون «كرمها»، ويطالبونها بحمايتهم، بينما يبخلون على أنفسهم في الإنفاق على الدفاع والأمن والقوة العسكرية. أكثر من ذلك أن ترامب لم يكن حريصًا على فكرة «القيادة» الأمريكية للعالم، خاصة من الناحية القيمية للديمقراطية والليبرالية وحقوق الإنسان، التي رآها تُعمى عيون أمريكا عن أخطار الاختلاط بالعالم غير المتقدم، والمعادى بالضرورة للدولة الأمريكية.
جاء ترامب إلى ساحة السياسة الأمريكية، في وقت تبلور فيه تيار «ضد العولمة» ورموزها من أول هجرة البشر إلى حركة التجارة إلى المؤسسات التي عبرت عنها. بشكل ما لم يعد ممكنًا تلاقى الأفكار اليمينية المعروفة حول دور الدولة في الاقتصاد والمجتمع مع أفكار العولمة، أو حتى ما كان معروفًا بالنظام الدولى المتسم بحرية التجارة. وعلى العكس من ذلك، فإن توجهات «اليمين» أصبحت تميل بقوة نحو الانعزال والعزلة، والتقوقع داخل شرنقة الدولة القومية مع درجة كبيرة من التوجس في الدول الأخرى، بما فيها تلك التي اجتمعت داخل تحالفات واندماجات وتكاملات عابرة للحدود الوطنية. ولم يمضِ وقت طويل حتى بدأت هذه الاتجاهات الجديدة تأخذ أشكالًا عملية ظهرت في الخروج البريطانى من الاتحاد الأوروبى فيما بات معروفًا بالبريكسيت Brexit، وجاء انتخاب ترامب لكى يشكل ما هو أكثر من انتخاب رئيس جديد تحت راية اليمين، وإنما ظاهرة متكاملة يمكن نعتها بالأمريكسيت Amerexit.
وداخليًّا، وضع الرئيس الخامس والأربعون دونالد ترامب خلال فترة رئاسته الأسس لما بات يسمى الترامبية نسبة إليه وإلى أحاديثه وأفعاله. و«الترامبية» تقوم على أيديولوجية القوميين البيض المختلطة بأفكار الكنائس الإنجيلية، وكثيرًا ما تستخدم شعاراتها ورموزها للتمييز ليس فقط بين البيض والسود، أو البيض والآسيويين واللاتينيين، وإنما أيضًا بين الطوائف المسيحية المختلفة ومدى نفوذ كل منها في الولايات الأمريكية. وربما كان يوم السادس من يناير ٢٠٢٠ مفصحًا عن العناصر النقية للترامبية كحركة سياسية تشمل أكثر مؤيدى الرئيس السابق دونالد ترامب حماسة وعنفًا، بما في ذلك مجموعات مثل Proud Boys وOathkeepers وQAnon و3 Percenters وAmerica Firsters، يغطون أنفسهم بلغة الكتاب المقدس لتبرير أفعالهم. قال المراقبون إن الصلبان والأعلام وغيرها من المعروضات كانت الأمثلة على كيفية استشهاد الإرهابيين البيض عبر التاريخ، بما في ذلك الكوكلوكس كلان KKK، بالمسيحية لتبرير ما يزعمون أنه حقهم الإلهى في السيطرة على الأجناس والمجموعات العرقية.
خلال هذه المرحلة التمهيدية للانتخابات الأمريكية المقبلة، نجد ظواهر مهمة: أولاها أن كافة المرشحين الجمهوريين عاجزون تمامًا عن تخطى نسبة التأييد التي يحصل عليها ترامب بين الجمهوريين. وثانيتها أنه رغم توجيه ٨٧ اتهامًا للرئيس ترامب تتراوح ما بين الأخلاقى (اتهامات التحرش بالنساء في ١٣ قضية)، والقانونى والدستورى المتعلق بدوره في الضغط على الولايات من أجل تغيير نتيجة الانتخابات (ولاية جورجيا مثالًا)، والإهمال الوظيفى الحاد باحتجاز الوثائق الرئاسية في منزله في «مارا لاجا» بولاية فلوريدا وليس تسليمها للسلطات المختصة قبل خروجه من البيت الأبيض. وثالثتها أن تأكيد ترامب المستمر على أن الانتخابات السابقة قد جرى تزييف نتائجها، وتبعية تكتل سكانى كبير وراء ذلك لم يتغير خلال السنوات السابقة وبعد تولى رئيس آخر للسلطة يضع حاجزًا بين العملية الانتخابية ونزاهتها. ورابعتها أن سلوكيات ترامب عند الخروج من السلطة، فضلًا عن مساندة حادث الاعتداء على الكونجرس، فإنه خرج تمامًا على كافة التقاليد المعروفة في حالة انتقال السلطة الأمريكية من أول تسليم البيت الأبيض إلى حضور قَسَم الرئيس الجديد. الانتخابات القادمة والمرجح لها مواجهة أخرى بين ترامب وبايدن سوف تحدد المدى الذي وصلته «الترامبية» في تغيير المجتمع السياسى الأمريكى.